Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
الأدب والشعر

الحداد الأسود الفيكتوري

لمياء عبدالله النفيعي

لمياء عبدالله النفيعي

” تمشي الهوينا في ظلمة الليل وحيدة ترتدي خماراً أسودًا، حلةٌ سوداء، تضع حمرةً سوداء، تسير بجوارها العناكب السوداء والغربان تنعق في السماء، تسير باتجاه المغارة المهجورة، تنعي حظها الأسود حين مات ذات مساء، حُكم عليها بالإعدام تتوشح بالسواد لمدى أعوام، ما أبشع ظلم الإنسان وقوانينه العوجاء، قُطفت زهرة شبابها وهي مازالت فتاة حسناء، ذات يوم أقبلت غمامةٌ بيضاء وأطلقتْ سراحها لتُحلق كفراشةٍ في حديقة غناء.”

ما قصة الأرملة والحداد الأسود الفيكتوري ؟ قبل أن اسرد حكاية هذا الحداد ، تعالوا بنا أيها القراء الأعزاء، نحرك عجلة الزمن إلى الوراء ونعيش في حقبة زمنية إلا وهي العصر الفيكتوري الذي لا يخفى عن البعض سبب التسمية، سُمي بهذا الاسم نسبة إلى الملكة فيكتوريا التي حكمت عرش بريطانيا عقود من الزمن، مابين القرن الثامن عشر إلى التاسع عشر، كانت بريطانيا في ذلك العهد من العصور المتقدمة في تاريخ الإنسانية من ناحية العلوم والادب والمسرح والرياضة والثقافة، والمعمار الفيكتوري والديكورات والأواني المنزلية، وكذلك كانت فترة مميزة في نمط الحياة التي يعيشونها، لكن ذلك العصر الفيكتوري يمتاز بشيءٍ من الغرابة والتقاليد العجيبة المتعلقة بالموت، كان الحداد على الميت له طقوسه وعاداته وتقاليده وبرتوكول خاص به، ينافس حفلات الزفاف من حيث آداب السلوك والأزياء حتى المجوهرات، ويعتمد على تسلسل معقد من حيث قرب أو بعد العلاقة مع الميت، وكلما زادت القرابة كلما طالت فترة الحداد وارتداء لبس الزيّ الخاص به.

كان اللون الاسود الرمز التقليدي للحداد على الموتى، وشائعاً بين الأثرياء خلال العصور الوسطى ثم انتشر في كل مكان في القرن التاسع عشر، وأُسست قواعد لملابس الحداد خاصة للنساء حتى في أدق التفاصيل الصغيرة للثوب التي تشير أن مرحلة الحداد أصبحت مهمة جدًا، وقد أنفقت الطبقات العليا والوسطى الكثير من الأموال للظهور بأفضل زيّ على الإطلاق، لأنهم يتعاملون مع الحداد بشكلٍ استثنائي وبمثابة وظيفة بحد ذاتها للنساء في ذلك العصر.

عند وفاة أحدهم يجب على المرء في ذلك العصر ارتداء أفضل ما لديه من الثياب السوداء للتعبير عن الحزن، ويتم استيراد أقمشة الحداد الراقية وتقتصر على الأشخاص الأثرياء والطبقة الوسطى، الذين كانوا يشترون الثياب الجديدة من العباءات السوداء والمظلات والأغطية والدبابيس ذات اللون الاسود، وأما طبقات الدنيا كانوا يصبغون الملابس باللون الأسود لضعف حالتهم المادية التي كانت مكسب للصباغين في تلك الفترة الزمنية.

 

كانت هناك قواعد للحداد يجب الالتزام بها ألا وهي فترة الحداد على الميت قد تمتد من أسبوع إلى أعوام وارتداء ملابس معينة على حسب نوع القرابة وقوة العلاقة للميت بدءًا من الرضع إلى كبار السن، كان الرجال يرتدون الملابس والقبعات السوداء والرباط الأسود وعادة مدة الحزن لديهم تستغرق من 3 إلى 6 شهور أقل بكثير مما هي مفترضة على النساء، وتنقسم مرحلة الحداد إلى مرحلتين الأولى والأخيرة، حيث يستطيع البعض منهم التخلي عن بعض القواعد في المرحلة الأخيرة على حسب نوع علاقته بالميت.

 

أما النساء في ذلك العصر عليهن أن يضعن جانبًا كل ملابسهن العادية ولا يرتدين شيء سوى القماش المصنوع من الكريب الأسود اللامع دون زخرفة حتى الاكسسوارات وعصابة المعصم والقبعات والحجاب بخامات مناسبة، واكسسوارات معينة خاصة في مرحلة الحداد الأولى، حيث تعتبر المجوهرات في فترة الحداد لها سمات خاصة وتصاميم معقدة.

 

كان المينا الأسود هو السمة المميزة لمعظم تصاميم مجوهرات الحداد، وقد تكون فاخرة مزينة بالألماس والأحجار الكريمة ذات اللون الأسود، حيث يسمح لهن بارتداء قطعة مجوهرات واحدة بعد انتهاء المرحلة الأولى بشرط ان تكون مصنوعة من شعر المتوفي، أو حُلي من الفحم، أو قطعة فاخرة، وإذا كانت المتوفية فتاة لم يسبق لها الزواج، يرتدون مجوهرات بيضاء تكريمًا لها، وكذلك الطفل المتوفي بارتداء الحُلي ذات المينا البيضاء حدادًا عليه، وكذلك كانوا يحرصون على الاحتفاظ باللوحات الشخصية للمتوفي التي تكون منحوتة بتاريخ وفاته واسمه ويحرصون على ارتداء خواتم من العقيق الأسود يكون بداخلها خصلة من شعره لتذكره في المستقبل ، أو أي أثر من آثاره الشخصية، والأغلب كانوا يستخدمون شعر المتوفي باستيراد أكثر من 50 طنًا من شعر الإنسان خلال القرن التاسع عشر، وكلما زادات الأسرة أكثر ثراء كلما زادت الانفاق على تلك التصماميم الغريبة.

 

من التقاليد الغربية إذا توفى الميت تُغطى مرايات المنزل اعتقادًا قد تسحب روح أنسان آخر، أما إذا وقعت المرآة وانكسرت لديهم يدل على أن أحد من أفراد الاسرة سيموت قريبًا ، ومن الغرائب ايضا إيقاف ساعات المنزل بتوقيت وفاة الميت لطرد الحظ السيء، وإخراج الجثة من المنزل باتجاه الرأس خشية أغراء الآخرين باتباعها.

 

كانت صور الموتى تُرسم قبل اختراع الكاميرا وبعد اختراعها حاول المصورون أن يجعلوا الميت كأنه مازال على قيد الحياة وفي أبهى هيئة لالتقاط صورة مع أفراد أسرته، أو كأنه يحمل اغراضه أو يجلس مع كلابه أو نائما بقرب أمه، وغيرها من الممارسات المخيفة التي تقشعر لها البدن، وكانوا يخافون من فكرة الدفن وهم أحياء إذا دخلوا في غيبوبة مرضية بسبب عدم تقدم الطب آنذاك، جاءت فكرة جرس التابوت عبارة عن خيط يربط في أصبع الجثة حتى يصل إلى شاهد القبر فإذا كان حي يهز الجرس ويسارعون لإخراجه، وإذا أرادت المرأة السفر متخفية تسافر كأرملة، لأن المجتمع وقتئذ يتجنبون الحديث عن الموت ويخافون منه ومن الأرامل.

 

لم تسلم النساء من تلك القواعد الصارمة حيث فرضت عليهن التقاليد بارتداء اللباس الأسود وأغطية ثقيلة على الوجه والرأس في ثلاثة الشهور الأولى من الحداد، وبعدها بإمكان الأرملة التخلص من غطاء الوجه أما غطاء الرأس قد يستمر تسعة أشهر أخرى، وبعضهن يرتدين زيّ يسمى ” خشخاش الأرملة” وهو نوع من أثواب الحداد، وفي المرحلة الأخيرة يسمح لهن بارتداء الالوان الداكنة، لكن بعض الأرامل الشابات يصرنّ على إرتداء الأسود لتوفير نفقات الإعلان عن زوج إذا أرادت الزاوج يومًا ما، ومن الممكن أن تعيش الأرملة مرحلة من الحزن على وفاة زوجها تتخطى العامين ، أو تستمر الحداد حزنًا عليه حتى آخر العمر مما يكن لها التقدير والاحترام لإخلاصها ووفائها لزوجها، والدليل على ارتداء الملكة فكتوريا اللباس الأسود حدادًا على زوجها الأمير ألبرت حتى وفاتها لمدة أربعين عاما، مما جعل الملابس السوداء هي الملابس الرسمية للجنازة عند عائلة المالكة البريطانية إلى زمنٍ هذا، رغم أنه عند وفاة جدة الملكة اليزابيث الثانية، ارتدت الملكة الأم ثوبا أبيضًا عند وفاة والدتها تكريماً لها، على غرار ماري ملكة اسكتلندا التي ارتدت ثوب حداد أبيض بعد أن فقدت العديد من أفراد أسرتها في القرن السادس عشر.

 

مع مرور الوقت سئم الكثيرون من الأسلوب المرضي المتمثل في ارتداء ملابس الحداد والمجوهرات ذات اللون الأسود، وطالبوا بمزيد من الألوان بعد مطلع القرن العشرين، وتم التخلي عن مجوهرات الحداد في معظم الأحيان، وخرجت تقاليد خزانة ملابس الحداد الطويلة، وظهرت بشكل آخر، إلا أن تأثير الملكة فكتوريا لا يزال موجود في فترة الحداد الملكي البريطاني الحديث من الألوان الصارمة إلى الالتزام الصارم بقواعد اللباس كما شاهده الجميع في تشيع جنازة الملكة اليزابيث الثانية.

 

 

ومضة مضيئة مقتبسة

” اللون الأسود ليس شراً نحن قمنا بتحميله المعنى الذي لا يطيق معناه.”

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى