الأصول الإجتماعية لمقولات الفهم 

لعلَّ أهمُّ القواعدِ الفلسفيَّة التي تفرَّعت منها الآراءُ أو تأثَّرت بها، عند المفكِّرين الغربيينَ وبعضِ العرب حول أسبقيَّة الفكرِ أو الواقعِ وأهم تجليات البحثِ في الحياة تُظهِرُ تغليبًا للواقعِ على الفكر فليس من الصعوبةِ أن نقعَ على تَمَظْهُرات هذا الخضوع للواقع فيما يسمَّى بالواقعية الفكرية ولكنْ الأكثر عرضةً للتفكير هو طرح السؤال التالي

كيف أكتب عن الواقع وكيف أتعامل مع الظواهر الطبيعية لهذا الواقع ؟

لقد طوّر دوركهايم هذه الأطروحة حول الأصول الاجتماعية لمقولات الفهم في أهم فصول كتابه “الأشكال الأوليّة للحياة الدينيّة ” وترجع هذه الأصول إلى التفاصيل الملموسة لإنجاز الممارسات لكن هذا الاستدلال الخاص بـ نظرية المعرفة تَمَّ للأسف خلطه مع علم اجتماع المعرفة وهذا الخلط هو الذي أدّى إلى تقديم تأويل خاطئ لـ نظرية المعرفة حيث تمّ اعتماد التصور المثالي الذي يعيد أصل مقولات الفكر الأساسية إلى المعتقدات والتمثلات الجماعية وبذلك أُهْمِلَتْ النظريةُ الدوركهايمية في المعرفة برمّتها وانطلاقاً من هذا المنظور فإنّ التأويلات السوسيوبنائية أو الثقافية التي تحظى اليوم بشعبية كبيرة لا تستطيع أن تمسك بالكيفية التي تتمفصل بها مختلف أبعاد الأستدلال في علم اجتماع المعرفة من جهة و نظرية المعرفة من جهة أخرى و التي كانت قبل إيمانويل كانط تعاني من مشكلة الفصل بين الفكر والواقع الذي خلقته الفروق الجوهريّة بينهما والتي ترى أنّ الفكرَ مُكَوَّنٌ من مفاهيم عامة ومستمرة، وأنّ الواقعَ مُكَوَّنٌ من تدفقات أبدعها الفهم البشري فقد أصبح الواقعُ الطبيعي يُدْرَكُ منذئذ بواسطة مقولات الفكر البشرية وليس بما هو كذلك. ففي كل حالة يضيف الإدراكُ الحسي والفكرُ البشري للواقع عناصرَ لم تكن توجد فيه من قبل وبالتالي، تبدو المعرفة البشرية عاجزةً أن تقيم مع الواقع علاقةً اختباريةً صادقةً ولقد تم طوال القرن العشرين التخلي تدريجياً باسم إجماع متزايد حول إستحالة الاستدلال على الصدق التجريبي للعلاقة بين المعرفة والواقع، عن هذا التصور الكلاسيكي لموضوع المعرفة الذي يتطلب بالضبط ذلك النوع من الاستدلال وتَمَّ في مقابل ذلك تبنّي مقاربة جديدة للمعرفة تتضمن مبدأ اللاتحديد فانطلاقاً من وجهة النظر هذه يُسْتَخْدَمُ التوافقُ الاجتماعي والتعريفاتُ المقبولة اجتماعياً كمقياس لكل تعريف للصدق الأختباري هذا ما يمكن استنتاجه من خلال التأثير المتزايد للمقاربات داخل العلوم الإنسانية والاجتماعية وعندما يؤكد دوركايم على موضوعية الظواهر الاجتماعية وضرورة النظر إليها ومعالجتها على أنها أشياء أو وقائع قائمة بذاتها فهو تأكيد على أن البعد الفكري الذي كان سائدا في علم الاجتماع حين كان يعني بالتصورات بدلاً من التركيز على الأشياء و على أن الغاية الأساسية لعلم الاجتماع هي تحقيق الموضوعية وأنه مثل عالم في العلوم الطبيعية والذي يفترض أنه يرتاد ميدان غير معروف وغير مكتشف وحينما يقوم العالم بإجراء بحثه على هذا النحو فإنه يستطيع أن يتعرف على الظواهر من خلال ملاحظة الظواهر الخارجية الملموسة مثل الولاء الديني والمكانة الزواجية ومعدل الأنتحار.. ويؤكد دوركهايم أن هذه الظواهر التي أمكن إدراكها عن طريق التحليل المتعمق لها إنما هي بمثابة انعكاس لظروف اجتماعية معينة فإن معدلات الإكتئاب قد تصور انخفاض درجة التضامن الاجتماعي في مختلف أنماط الجماعات وأهمّ ما استحدثه سبينوزا في هذا السياق ونتيجة لهذه النظرة إلى الإنسان هو أدراجه ضمن الظواهر العلمية الخاضعة للبحث والتحليل والبحث كما قال في مقدمة الباب الثالث من الأخلاق: «كما تُبحث الخطوط والمسطحات والأجسام» أي أن الهدف من علم الأخلاق وهو من أبواب علم الإجتماع ليس الوعظ والإرشاد فقط إنما الدراسة والبحث والفهم فنَقَل بذلك الأخلاق من مجال ما ينبغي أن يكون إلى مجال ما هو كائن وهذا ما نعنيه بدور المفكر والباحث وهو الارتقاء ولكن اذا وثقنا في تعريف هايدجر بأن ” التطابق لا يمكن أن يكون إلا بين شيئين متماثلين في الشكل والطبيعة”فكيف يمكن أن يكون الفكر مطابقا للواقع وهما مختلفان؟!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى