الأدب والشعر

الحكاية الاولى…. رحمة

 د. ريم  الحشار

د. ريم الحشار

حكايات من الواقع

 

تمر صورهم في احلام يقظتك؛ وتشعر بهم وبوجعهم

ومعاناتهم. فتُسرد في مخيلتك حكاية ماتتسائل!؟

هل هي أحلام وأفكار أم إنها رسائل سماوية توصيك بهم

ليأتيك الرد فتسعد بلُقياهم وتقر عينك وتطمئن عليهم وما

تلبث إلا أيام تسمع فيها خبر فراقهم لهذه الدنيا الفانية

و للأبد.. فهل هي رسائل أم أفكار!

 

في مساء ربيعي من شهر أبريل من العام 2015 وبعد يوم

شاق في العيادة النهارية في المركز الصحي وقد كنت في

وضع استرخاء منزلي على سريري أشرب الشاي في وضع

دافئ ولطيف.

وإذا بي في منتصف ساحة المستشفى الجامعي ورحمة

أمامي تقول “وصيتك عيالي” وهي تكررها! ففقت وأنا

استعذ بالله من الشيطان الرجيم ونبضات قلبي تتسارع ؛

وإذا به حلم يقظة !

كان عملي فاليوم التالي يبدأ في الفترة المسائية وينتهي

قبل العاشره ليلا. فبينما كنت أعمل في المساء راودتني

ذكرى البارحة. ولكنني تعمدت عدم التركيز عليها لإكمال

عملي. وقبل أنتهاء العمل إذ بي أرى رحمة على شباك

الصيدلية لاستلام الأدوية. ابتسمت وأنا أهرول بأتجاهها

وأقول ” رحمة حلمتك البارحة, والحمدلله أني رأيتك

اليوم واطمئن قلبي رحمة تناظرني بإبتسامة خفيفة

صامتة. ناولتها بعضا من الريالات التي كنت أحملها ظنآ

مني إنها كفاره الحلم.

فمن هي رحمة؟

رحمة هي زوجة لرجل يعاني من إعاقة ذهنية وأم لبنات

وولد كلهم مصابين بنفس إعاقة الأب عدا الأكبر وهي

متزوجة والأخرى تعاني من مرض دم وراثي شديد وهو

الثلاسيميا. أسرة من ذوي الدخل المحدود. تعرفت عليها

عندما شدني صمتها ونظرتها الحزينة عندما كانت تدخل

علي هي وبناتها. و الإبتسامة ترتسم على وجوههن. ولكن

كلامهم كان مقتضب جدا. ففي كل زيارة أراهم فيها كنت

كالذي يعصر الكلام منهن لمعرفة التاريخ المرضي. وما

كان يسعدني أنهم حين يرتادوا المركز الصحي يأتوا كلهم.

لم أكن أعرف تفاصيل كثيرة عن الأسرة. ولكنني في يوم

من الأيام رايت رحمة والصمت اليائس يتجسدها ونظرة

الخذلان تلبسها. فطلبت من بناتها أن ينتظروا في الخارج

و أغلقت الباب لكي استمع لرحمة في غرفة الطبيب.

وبعد معاناة من محاولتي سؤالها عن حالها انطلقت رحمة

بالحديث وكيف أنها يئست من هذه الحياة. فلا معيل ولا

سند ولا طبيب لجراحات قلبها. فهي المدافع والمتصدي

لفوران والد البنات وغضبه وتعديه عليهم. وهي المدبر

لقوت يومهم وهي العاقلة والصابرة والمتحملة لكل

المعاناة الصحية والعقلية والمادية لهذه الأسرة. كان

صمتها يأس وكانت نظرتها ظلام دامس وكان جسدها بلا

روح وقلبها بلا نبض.

تقطع قلبي عليها, وكنت أحاول مساعدتها بما أستطيع

وأقدر. فرغم ظروفها السيئة لم أراها يوم تطلب أو تسأل

المساعدة ,وهي كالذي تنطبق عليها الآية القرانية

“يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف” مضت الأيام و الأشهر وتعمقت علاقتي بها فكنت الطبيب المعالج للأسرة وكانت كل ما ترتاد العيادة هي وبناتها , يضعهم طاقم التمريض في مجموعة الدكتورة ريم.

 

واستكمال لمساءات أبريل: فقد كان ذلك الأسبوع آخر

أسبوع لي قبل بداية إجازتي السنوية. وكنت سعيدة جدا.

فبعد يومين من بدء اجازتي ذهبت للمركز لاخذ بعض

الأدوية الدورية لاسرتي. وإذا بإحدى ملائكة الرحمة

والتي كانت من ضمن الطاقم الذي يعلم بعلاقتي برحمة

واسرتها تقول ” دكتورة أمس جات رحمه تسأل عنك؟”

فسالتها إن كانت تعاني من شي فقالت ” عملت الضغط

والسكر وراحت” فقلت الحمدلله ورحلت في رحلة

الإستمتاع بالإجازة السنويةوعند عودتي, طلبت مني

إحدى الممرضات أن اتمالك نفسي وأن أهدئ من روعي.

وكنت أحسبها تريد أخباري بقانون جديد أو مناوبة ما أو

ما اعتدنا عليه من أخبار فالمركز.

ولكني افاجئ بها تقول: دكتورةرحمة توفت!

فقلت: من رحمه؟! وكأنني لا أريد تصديق الرؤيا

فقالت مريضتك أم البنات

مررت بحالة من الصمت الذهني وانغلقت كل سبل التفكير والأدراك لدي .. لثواني!

بعدها سألتها : وكيف ماتت؟

فقالت: توفت في نفس اليوم الذي أتت لتسأل عنك! كانت

زيارتها للمركز الصحي في العاشرة والنصف صباحا

وتوفت بعد صلاه الظهر.

فقلت: وكيف بالضبط ماتت؟

قالت: قالوا إنها ذهبت لتصلي الظهر وآخر ما قالته لبناتها

“خلوني أريد أرتاح شوي” وعندما أرادوا أن تفيق لتناول وجبة الغداء وجدوها قد فارقت الحياة وذهبت الى رحاب البارئ”

فنهضت وهرولت سريعا لغرفة المعاينة لاتفقد آخر تدوين

للمعاينة قبل أن تتوفى. وأتسأل بيني وبين نفسي هل

كانت نوبة سكر! أم ضغط! أم أن الهم والحزن قد امتص

منها آخر أنفاسها؟! وبعد البحث خلصت إلى نتيجة

واحدة؛ فقد كانت نتائج المعاينة طبيعية جدا. استخلصت

إنها قد تكون ذبحة صدرية لذلك أتت

للمركز لتشكي لي

وجعها لأنها لم تتعود الشكوى ولا الكلام لأحد فلم تجد من

اعتادت أن تسمعها بلا حكم عليها أو تذمر منها ومن

وضعها المؤلم, بحثت عن من ظنت انها ستمنع قضاء الله

وقدره عنها!

ظلت ذكرى رحمة في قلبي إلى يومنا هذا.

كنت في وقتها قليلة الحيلة وقليلة الخبرة، لم أعرف كيف

أحافظ على وصيتها ؟ , لم أستطع المحافظة على بناتها

واسرتها. لم أعرف الوسيلة. وبعد محاولات مبعثرة لتنفيذ

الوصية. استسلمت لقلة حيلتي ولحزني ويأسي من تنفيذ

وصية رحمه. وكان هذا أيضا بعد أن شعر زميلاتي إن لم

يكن في وسعي عمل اي شي للأسرة وللبنات. فحياتهم

كانت مأساة بكل ما تعني الكلمة من معنى. فبصيص الأمل

الذي رأته رحمة في اهتمامي بهم لم يكتمل. فبغيابها غاب

السند والمعيل والحضن الدافي والأمان عن اسرتها ولم

تكن محقه, فلم أستطع أن احل محلها ولا أن أصبرصبرها.

وبين كل تلك الأحداث لم يسندني في قمة يأسي سوى ..

. بوحي لها:رحمة

 

مال الحُزنِ اضناني

وبُّتُ اذكرُ خِلاني

أُقابِل الليلَ في وجعٍ

وليلي ذاقَ احزاني

آيّا رحمةُ قربَ اللهِ سُكناكي

وفي الروحِ حُبُكِ واللهِ أشجاني

تباتينَ القبر في رَغدٍ

ورؤيا العين شاءت سَردَ ذِكراكي

شقت روحي بما سمِعت

وأبْت أُذُنايَ تصديقي

أما واللهِ لا اعرف

بأيً لوعةٍ ذا اليومَ التاعي

قتلتِ الموتَ في فرحٍ

وصيِّةَ للهِ أهديتي

فمالي أُسامِرُ أحزاني

ومالي بلوعةِ المكبوتِ التاعي

رحمة

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى