قيثارة الأندلس و معلم الاتكيت
قلم : لمياء عبدالله النفيعي
————————————-
ثقافة وفنون
طالما غفل التاريخ الاسلامي والعربي عن ذكر عالم أو فنان مخترع هناك أو هناك وكان له بصمة خالدة في العالم العربي والاسلامي، من تلك الشخصيات الذي يُعدّ مُبتكر فن الذوق العام الذي يسمى ” الاتيكيت” الملقب بـ “زرياب” لدكانة لون بشرته وفصاحة لسانه وعذوبة صوته وثيابه البيضاء، فأطلقوا عليه هذا الاسم تشبيهًا له بطائرٍ كان معروفًا بريشه الأبيض وفي بطنه ألوان سوداء، وغلب اللقب على اسمه “أبو الحسن علي بن نافع”، وأيضا هي كلمة فارسية معربة تعني صاحب الصوت الذهبي.
يعتبر “زُرياب” من أشهر أعلام الموسيقى والذي أحدث ثورة موسيقية في الأندلس والتي انتقلت منها إلى أوروبا، وحلقة وصل هامة في نقل الحضارة الإسلامية الشرقية في مختلف أنحاء العالم، وكان وقتها يقطن في بغداد التي كانت وجهة الراغبين في الجمال والأناقة والثقافة وزخرت القصور بكل ألوان الطعام والشراب والثياب والعطور والتحف في العصر العباسي، وفي ذلك العهد شاع صيته وأصبح المفضل لدى الخليفة هارون الرشيد، حيث كان تلميذاً لدى أسحاق الموصلي الذي اشتعلت الغيرة في قلبه وطلب منه مغادرة بغداد وإلا حياته مهددة بالخطر.
فهل كانت للأندلس موعدٍ معه ليبزغ نجمه ويذاع صيته ويكون محط أنظار الأندلس وما جاورها؟!
خرج زرياب بمساعدة الموصلي نفسه إلى المغرب العربي ومنه إلى قرطبة وصار المقرب إلى الخليفة الأموي “عبدالرحمن الثاني” وسرعان ما غدا زرياب شخصًا معروفًا في قصر الخليفة ثم اشتهر في الأندلس وتمركز بها ولُقب “زرياب القرطبي” إذ بدأ نشاطه في مدينة قرطبة، لقد كان مغنيًا بارعًا وموسيقارًا، وشاعرًا وملم بالعلوم والأدب وفلكيًا عارفًا بالنجوم ومطلع على جغرافية البلاد ومتعمق في التاريخ وأخبار الملوك والأمراء ليطلق عليه لقب “الموسوعة المتنقلة”.
اخترع الموشح وأتقن فن العزف على العود، وأدخل عليه التحسينات فجعلها أخف وزنًا وأضاف عليه الوتر الخامس تختلف عن المواد التي تصنع منها الأوتار، إذ صُنعت من الحرير وأمعاء شبل الأسد، فكانت ألحانه أدق وأرق، كما استبدل الريشة الخشبية بريشة من مخلب النسر، بالاضافة نقل كل ماعرفه من آلات موسيقية من الشرق إلى الأندلس ليؤسس مدرسة للغناء والموسيقى وفنونها وقواعد اللحن ، ووضع ً صارمة للقبول ووضع مناهج لها، وأقبل عليها لمن يرغب بصقل موهبته من العرب والمسلمين وحتى الاوروبيين الذين ارتحلوا إلى الأندلس لينهلوا من علم زرياب، ولا يزال بعضها يُدرس في العالم كله حتى الآن.
بهر زرياب أهل الأندلس وطار صيته في كل مكان وأضحى قطب الفن الذي لا يجاريه أحد وأخذ عنه أهل الأندلس فنونه وإبداعه وتشبهوا به في مظاهر زيه وأناقته وطرائق معيشته حتى أن جاز التعبير إذ يُعدّ “فانشونيستا” الأندلس وأوروبا الأول، لأنهم ووصفوه بالرجل الأنيق في طريقة كلامه وجلوسه وطعامه، وكان يضع على مائدته الكثير من المناديل هذه لليدين وتلك للشفتين وهذه للجبهة والأخرى للعنق، وهو أول من لفت أنظار النساء بأن تكون مناديلهن مطرزة بيضاء اللون أو ملونة ومختلفة الحجم ومعطرة أيضا.
إذ نقل زرياب كثير من رغد ورفاهية كيف يلبس الناس، وماذا ترتدي نساؤها، ويقص الرجال شعورهم في بغداد حيث كانوا الأندلسيين يتركون شعورهم مسترسلة على أكتافهم ومفروقة من المنتصف وتغطي جباههم وأصداغهم، فعلمهم تصفيف شعورهم وتقصيرها ليظهروا الحاجبين والعنق والأذنين.
وساهم أيضًا في نشر علم أناقة الملبس وتنويعه بين فترات الصباح والمساء وبين الفصول الأربعة وتقلبات الجو المختلفة، إذ تعلم الأندلسيون إرتداء الملابس البيضاء في الصيف، والملونة في فصل الربيع، والفراء والأقمشة الثقيلة الداكنة في فصل الشتاء.
لم يكتف بهذا بل ابتكر قواعد المائدة المعروفة حتى عصرنا هذا، وهي ترتيب الأطباق بوضع أولا اطباق الشوربة وتليها اللحوم أو الدواجن المتبلة وفي النهاية تُقدم أطباق الحلوى، واستبدل الكؤوس الذهبية والفضية أو الخشبية ، بأواني زجاجية، وعلمهم أيضًا فن استخدام الملاعق والسكاكين لتقطيع الطعام وتناوله بدلا من استخدام الأيدي، وإدخال الخضروات المتنوعة، وقد اشتهر عنه بإقامة الولائم الفخمة وتنسيقها وترتيبها.
كما أنه ساهم في نشر علم العناية بالبشرة وفن التجميل ونظافة الجسد والبدن، وأول من ابتكر مساحيق ومركبات لإزالة رائحة العرق، كما ابتكر أيضًا معجونًا للأسنان و”شامبو” لتنظيف الشعر مكونًا من ماء الورد والملح، ويرجع الفضل إليه وانتشارها في أوروبا في بداية القرن التاسع عشر.
علم الناس فنون الكلام والحوار، وآداب الحديث ونبرة الصوت مثلما يتحدث ويتسامر أهل القصور، وصفوة القوم في بغداد وأدخل لعبة الشطرنج والنرد إلى قصور النخب، ومنها إلى العامة.
هذا هو زُرياب الذي نقل إناقة الشرق ورغده في ذلك الوقت، إلى الأندلس ووضع لها أسسًا في مجالات الفن والازياء والتجميل، وله أثر في الحياة الثقافية في البلاط الأموي بالأندلس لازال تعتمد عليها حتى الآن.