حوريات البحر


تقرير :لمياء النفيعى
الحورية في الأساطير اليونانية، نصف آله أنثى، وتولد جنبا إلى جنب مع التضاريس أو الموقع الذي تتواجد فيها، وتتوقف عن الحياة بمجرد جفاف مصدرها، مثلاً إذا جفت المياه تموت حوريات الماء، وفي معظم الأحيان كانت الحوريات خالدات، وتحرس أماكن الطبيعة المختلفة من أنهار أو جبال أو بحار أو غابات، و”حورية البحر” هي أحد أقدم الأساطير التي عرفتها البشرية، وعندما يقرأ القراء كلمة “حورية البحر” يسرح خيالهم إلى حوريات نصف أجسادهن بشرية والنصف الآخر ذيول أسماك، وقد ظهرت أول قصة في عام 1000ق.م. في المملكة الآشورية، حتى أعتقد بعض الناس بوجودها، ومنذ ذلك الوقت انتشرت الأساطير حول حورية البحر وأصبحت موروثًا ثقافيًا.
في الواقع هناك حوريات في جزيرة من أجمل الجزر في العالم تقع في كوريا الجنوبية، تلك الجزيرة متفردة بنسائها، ويعرفن بمصطلح “هاين يو” أي حوريات البحر، وهن نسوة يمارسن مهنة الغوص حتى 34 قدم تحت البحر لجمع المحار وثمار البحر، والقنافذ البحرية، والأخطبوط لمدة ست ساعات متواصلة من دون استخدام معدات الغوص لبيعها في السوق، كأنهن حوريات حقيقيات ، وهذا هذا التقليد يرجع إلى عام 434م، وكانت مهنة خاصة بالذكور؛ ومن ثم تحولت تلك المهنة إلى الإناث! ما سبب ذلك التحول؟!
ذُكرت في السجلات التاريخية تفسيرات عديدة، وهو أنه في القرن 17 مات العديد من الرجال في البحر بسبب الحروب والصيد، وذُكر أيضا تفسير آخر وهو تجنيد الرجال في جيش الملك مما اضطررن النساء مزاولة الغوص من أجل إعالة أسرهن ودفع الضرائب، وأيضا من التفسيرات؛ أن النساء لديهن المقدرة على تحمل المياه الباردة بسبب ارتفاع نسبة الدهون في أجسامهن، وهناك تفسير بسبب ندرة الأراضي الزراعية، لذا مارسن مهنة الغوص من أجل لقمة العيش.
يسمى هذا العمل بـ”مولجيل” وهي اللهجة المحلية الكورية، ويتطلب فترة طويلة من التدريب والخبرة حتى تتعلم الفتاة وتكتسب المهارة في السباحة والغوص بالقرب من مياه المحيط الضحلة، وذلك عندما تصبح في الثامنة من عمرها حتى تصبح غواصة صغيرة في عمر خمسة عشر عامًا بحبس أنفاسها تحت الماء من خلال استشعار ضغط الماء وكمية الأكسجين وتقدير المسافة الفاصلة عن سطح البحر، وتستمر في ذلك إلى أن تبلغ سن السبعين أو الثمانين، ويمارسن تلك المهنة الحوامل وقد يلدن على متن القارب ويواصلون حياتهن في الغوص والأمومة.
تلك النسوة يغطسن لسنوات في مياه المحيط المتجمدة بارتداء بدلات قطنية محلية الصنع ونظارات واقية حتى السبعينات، والتي تم استبدالها ببدلات من المطاط الأسود التي ساعدتهن على الغوص بشكل أعمق وقضاء المزيد من الوقت تحت الماء، وزيادة دخلهم، ويعملن دائما في مجموعات ولديهن نظام هرمي يهدف إلى الحفاظ على سلامتهن وقواعد صارمة فيما بينهن بحيث تقسم تلك المجموعات (رتبة عالية – رتبة متوسطة – رتبة منخفضة)، ويمتلكن معرفة واسعة بطبيعة البحر، تناقل نساء ” الهاينيو” الخبرات الواسعة والمعرفة بالنظام البيئي البحري من جيل لآخر.
يخيل للقراء أنهن خارقات ويتمتعن بمرونة الجسد وذكاء خارق، ألا أنهن بشر مثلنا، لهن قدرات محدودة ويفتقدن الكثير من الأصدقاء أو الأقارب في رحلتهم البحرية المحفوفة بالمخاطر ويؤدي إلى حدوث وفيات بسبب خطئهن في تقدير الوقت الذي يمكنهن من حبس أنفاسهن تحت الماء، ويتعرضن لمشاكل صحية تعيقهن عن الغوص ومن ضمنها تعرضهن لمتلازمة “جامسو بيونغ” مشاكل في الجهاز الهضمي وألام المفاصل وطنين الاذن، تقول أحداهن” ليس لديك فكرة عن مدى صعوبة الخروج من البحر وتنفسك ضيقا كما لو أن عظامك تحطمت، والارض تدور بك”.
نساء جزيرة جيجو مناضلات ويعرفن بروحهن المستقلة وإرادتهن القوية وتصميمهن على الغوص رغم متاعبه الكثيرة إلا أن التغيرات المناخية والتلوث البيئي أدت إلى صعوبة العثور على الأعشاب البحرية بسهولة، وهددت مستقبل عملهن في البحر ومصدر رزقهن.
ظل ذلك التقليد متوارثاً، حيث يعملن حوالي 26 ألف من نساء “جزيرة جيجو” غواصات محترفات حتى أوائل الستينات ولكن بدأت تنقرض تلك المهنة بسبب تضاءل عدد النساء في البحر، وعزوف الفتيات رغبة في الدراسة أو العمل لأن الغوص مهنة صعبة ومحفوفة بالمخاطر وخطر على حياتهن، وأيضا بسبب تغير المناخ الذي أثر بشكل كبير فارتفاع درجة حرارة سطح البحر مما يقضي على النظام البحري الذي يعتبر مصدر غذاء الحيوانات الأخرى.
ثقافة “الهاينيو” أو حوريات البحر تخبرنا ان حياة تلك النسوة متعلق ببقائهن على قيد الحياة لتلبية احتياجاتهن واحتياجات أسرهن في نهاية كل يوم، ورمز الصمود والحرية والحكمة والاستقرار ويساهمن في الاقتصاد المحلي للجزيرة، مع أساطيرهم وأغانيهم الشعبية يقدمون إرثاً ثقافياً للعالم أجمع.
“صف القارب الخاص بك
دعنا فقط نمضي قدما
تحت البحر
الكثير من البطلينوس
وأذن البحر
لكن الطقس يعيقنا”