الوجود والعدم في فلسفة “هيدجر

إنّ فلسفة مارتن هيدجر« هي مِن بين سائر الفلسفات الوجودية أكثرها عمقا وأشدها طرافة»فلقد أعلن هيدجر مراراً أنّ فلسفته ليست فلسفة وجود إنساني وإنما هي فلسفة وجود عام ونجده رفض تسمية فلسفته باسم”الوجودية” فذلك لأنه قد حرص على أن يبين لنا أنّ” الأونطولوجيا” هي موضوع دراسته لا مجرد وصف الوجود الإنساني ولقد فرق بين ما هو مجرد تعبير عن الوجود وما هو داخل ضمن مقومات الوجود وهذه التفرقة في نظره هي التي قد تسمح لنا أن نقول: إنّ فلسفته” أونطولوجية” تدرس مقومات الوجود الإنساني عموماً لا مجرد صفات الموجود الفردي. ومِن أهم مقومات الموجود عند هيدجر” الوجود في العالم”، ” الوجود مع الآخرين”، والنزوع المستمر نحو” التعالي” أو” المفارقة” ومن هنا يتضح لنا تمييز أساسي بين ميدان الوجود وميدان الموجود أو بين الوجودي( الأنطولوجي) وبين الموجود يرجع إلى ما يجعل الموجود موجوداً أي يرجع إلى تركيبه الأساسي. أمّا الموجودي فيشمل الموجود كما هو معطى.
إن المثل الأعلى لفلسفة هيدجر، التي يغلب عليها طابع” المباطنة” أو” الكهون” في العالم، وتصر على رفض أي عون يأتي من أعلى لتحديد أصالة الإنسان وحقيقة وجوده؛ هو” الوجود الأصيل ولا شيء سواء” وقد أراد هيدجر أن يفهم” الوجود” بصفة عامة إلا أنه يرى في كينونة الموجود البشري سبيلاً مشروعاً لفهم حقيقة الوجود بوجه عام إنه يقرر أننا لا نفهم الوجود إلا عن طريق وجودنا أو في صميم كينونتنا وبهذا المعنى يمكن القول بأن الأونطولوجيا هي وجودنا نفسه إن هيدجر يريد أن يقصر كلمة” الوجود” على الإنسان، فنراه يقول:« إن الحيوان” يحيا” والموضوعات الرياضية” تبقى”والأدوات المادية” تظل” تحت تصرفنا ومظاهر الطبيعية” تتجلى” أمامنا، ولكن الإنسان وحده هو الذي” يوجد” بكل ما في كلمة” الوجود” من معنى»
وقد أكد على دور الآنية في أنه يقتصر على الاستماع إلى نداء الوجود نفسه ويصبح” راعي بيت الوجود” قد اختلف النقاد في الحكم على فلسفة هيدجر فمنهم من قام بالهجوم بشدة عليه ومنهم أسرف في مدحه وما يلفت النظر حقا هو أن” لغة هيدجر” هي المدخل إلى الحكم له أو عليه فان فهمها الناقد ورآها واضحة أعجب بهيدجروإن أساء فهمها وأعتقد أنها غامضة معقدة رماه بالإغماض والإرباك. والحق أن هيدجر لم يحاول أن يتعمد الغموض فهو يجاهد في سبيل التواصل مع قرائه ولكن إن وجد غموض فمرجعه هو الغموض في الموضوعات التي يواجهها هيدجر محاولاً كشفها إن هيدجر« لا يستهدف من وراء فلسفته أن تعطي القاري إجابة واضحة عن الموضوعات التي يتناولها بل يود على العكس من ذلك أن يستثار القاري بالسؤال ويكابد المشكلة مكابدة إلى حد الدهشة إزاءها» و سرّ الموت« إنك لن تموت.. هذا الملك لن يموت»
هكذا كان الانسان قديما يكتب على جدران معابده التي بناءها بعناية فائقة للملك المتوفى وقد كان موقفه أمام الموت موقف الاحتجاج الواضح ضده فهو كان يعتقد شديد الاعتقاد في البعث والخلود إن الجنس البشري كله وليس الانسان القديم فقط يرى الموت الحد النهائي الذي يتحدى القيم ويكذب شتى مزاعم الإنسان ويلقي على كل ما في وجوده من آمال ظلال الفناء لذلك تصبو الإنسانية لأن تقضى عليه وتلغيه وهو الذي يدفع الإنسان بأن يدرك أن الكل باطل وأن الحياة ظلال لا تلبث حتى تنتهي
الإنسان وحده الذي لديه الإمكانية أن يأخذ موقفاً أمام الموت ولاسيما أنه هو الكائن الوحيد الذي يعرف أنه يموت وهناك مواقف متعددة حيال حد الموت تتمثل في رفضه أو الاستسلام له أو البحث عن معنى أمامه فيمكن للإنسان أن يعطي بطرق مختلفة، معنى للموت فيصبح جزء من حياته بل عنصراً أساسياً في حياته الإنسانية. فإذا لم يقبل الموت لن يقبل حياته فمن شروط النضج هو قبول الموت وهذا القبول لا يعني الاستسلام له أو السعي إليه إنما أن يأخذ الموت مكاناً في حياته فلا يصبح مرفوضاً بالنسبة له يرى هيدجر في كتابه” الوجود والزمن” الذي كتابه في عام 1927 أن الموت يعطي جدية للوجود الإنساني فعندما ينفتح الإنسان على إمكانية الموت يدرك أن الإمكانيات الكثيرة الذي يريد تحقيقها ليست هي الهدف
فالموت إذن بمثابة تذكير للإنسان بنسبة أي إمكانية إن الموت بالنسبة للإنسان ليس مجرد مشكلة إنما هو سرّ وهناك فرق بين المشكلة والسرّ،ك فالأولى شيء يلتقي به المرء من الخارج فيقف حائلاً دون تقدمه أما السرّ فهو شيء يتلبس بنا ويغلف بغموضه صميم وجودنا فلا نملك أن ننظر إليه من الخارج لأننا مرتبطون به ومندمجون فيه وبهذا المعنى يمكننا أن نقول أن الموت سرّ لا يكاد ينفصل عن صميم وجودنا مادام وجودنا زمنياً متناهياً يسير حتماً نحو الفناء والموت أيضاً سرّ لأننا كلما حاولنا سبر أغواره فهو يزداد عمقاً وغموضاً، فعلى الرغم من أن الموت هو الحقيقة التي لاشك فيه إلا أنه تحد للعقل البشري أن يتمكن يوماً من الكشف عنه. إن في الكون ألغازاً كثيرة لا يحاول المرء العادي معرفة كنهها لأنه يشعر بأنها ليست داخله في صميم وجوده
لكن لا أحد يقف ساكناً حيال ذلك السر الخاص الذي يقبع في أعماق وجود ه إن الإنسان في كل مكان وكل زمان، يسعى لأن يجد تفسيراً لذلك السر أي الموت ولكنه سرعان ما يتحقق من أن الموت هو ذلك الحدث المجهول الذي يضعنا وجهاً لوجه أمام الأخر الذي لا تفسير له سوى أنه لا يفسر وقد حاول الفيلسوف هيدجر أن يجهد ذهنه وقلبه وكل كيانه في البحث عن تفسير لذلك السر الذي يغلف وجودنا حاول ذلك بكل ما أوتى من ذكاء وحكمة وخبرة فكانت ثمرة ذلك المجهود تفسيراً هاماً عن الموت وقد نتفق أو نختلف معه حيال بعض الأفكار التي جاءت في تفسيره ليس الموت براجع إلى نقص في معرفتنا العلمية أو إلى وجود بعض الثغرات في علوم الحياة وإنما هو الضريبة الفادحة التي لابد من أن يدفعها الموجود البشري المتناهي حتى يتسنى له أن يحقق مصيره في الزمان وقد جعل هيدجر من الوجود البشري وجوداً متناهياً يسير نحو الموت فقال بأن” موتي” هو أعلى إمكانية من إمكانياتي وتلك هي إمكانية عجزي عن تحقيق أي وجود في العالم
وقد عبّر زكريا إبراهيم عن ذلك العجز بقول معبر فقال: إن الموت:« هو مرض ميتافيزيقي لا علاج له! إنها لعنة التناهي التي تخل بالإنسان منذ ولادته، وكأنما كتب عليه أن يموت لمجرد أنه قد ولد! آية ذلك أن الإنسان” يموت”، لا لأنه” يمرض” أو” يهرم” أو” يصاب بحادث” بل لمجرد أنه مسار الحياة النهائي فلا يعني كل ما سلف أن هيدجر يدعونا إلى التهرب من أعمالنا العادية والانصراف عن مهامنا اليومية بل إننا نراه يقرر على عكس من ذلك أنه لا بد للإنسان من أن يشد كل قواه ويعي كل إمكانياته، للاضطلاع بالمسؤولية الملقاة على عاتقه. إن هيدجر لا يريد لمشاغلنا العادية أن تستأثر بفكرنا فتصرفنا عن التفكير في الموت والعمل على انتظاره ولذلك نراه يقول إن الذات الواعية لا تقبل أن تكون فريسة لخداع المشاغل اليومية بل هي تعرف كيف تعطي كل شيء قيمته وربما كانت القيمة الوحيدة لمشاغل الحياة العادية هي أنه ليس لها على وجه التحديد أدنى قيمة فعلينا أن ندرك تمام الإدراك معنى وجدنا وندخل الموت في حياتنا باعتباره جزء منها وهذا بدوره يسهم في أن نحيا وجودنا حياة حقيقية أصيلة ولذا لابد للإنسان من أن يعيش في القلق لينتبه إلى حقيقة الوجود ذلك أن الإنسان بطبعه يميل إلى الفرار من وجه العدم الماثل في صميم الوجود وذلك بالسقوط بين الناس وفي الحياة اليومية الزائفة ولكي يعود إلى ذاته لا بد من قلق كبير يوقظه من سباته وهو التفكير في” إمكانية الاستحالة” .