ولادة الكلمة.


فتحية اللبودى
خلف أفق الكون نعجز عن الولادة الأولى….لا شيء يضاهي حنينا للكتابة ودافعا يرمي بك نحوها ويرغمك عليها دون جهد منك فتلد ولادة صاخبة ترحّب بك الحياة فيها…في الكتابة نضع كلّ شيء محلّ وهم… ذاك هو منطقها…
في الوطن، نبحث عن ذواتنا نسأل أنفسنا من نحن وأين هي أرضنا الأولى وكوننا الأول، كثيرا ما نسأل ولكن قليلا ما نجد إجابات عن أسئلة مثل هذه، لكنّ أمي تجيبني عندما ترى الألم في عينيّ وتقول: “ولدت في وطن أصيل هو الكون الأول”
_”أتصفينه لي”؟
_” في ذلك الوطن لا نبحث عن شيء فكلّ ما نستحقه يضعه ربّ الكون أمامنا رحمة بنا، في ذلك الوطن نسأل وفي غيب الله نجد الأجوبة دون جهد منّا… ”
_” من يسكنه غيركم؟ ”
_” في وطننا تسكننا أرواحنا التائقة شوقا للسّماء، نسكن في قمم الجبال رفقة وحوش القفار، وفي فيافي الأرض نشعر بالطّموح الوفيّ الذي لا يخون أبدا صاحبه”
في النهاية نبحث عن الحقيقة، في الوجود نبحث عن الحقيقة، وفي المنفى نبحث عن الحقيقة، نقول كما قال اللا أحد… في نهاية المطاف تولد الحقيقة وفي أفق العدم يولد الغيب…. وفي مراسم الحزن تولد الحقيقة الخالدة:” من أنت؟” ربّما تكون هذه الجملة المؤلفة من كلمتين سؤالا يسأله فاقد أب، فاقد سند، فاقد هوية، فاقد أمل، فاقد طموح، فاقد عزّ، فاقد ذات… عندما تأتيه الحقيقة على غير هوى نفسه، يصيح بها أنا كل أولائك وأنت اللاشيء، فاقد الشيء لا يعطيه عادة لكن فاقد المروءة ميّت لا محالة ولا يرى الحقيقة حتى متى كانت نابعة منه… وهل تنبع الحقيقة من ناكرها… ؟ نعم تنبع من فاقدها وناكرها وجاحدها وحتى من لم يسمع بها يوما، يعرفها من لا يعرفها….
تتبدّل الأدوار على حدّ قول أحدهم “الأيام دول”، نجد من السّعادة مالا تجده أنت سنين عمرك، ونجد من الألم مالم نعرفه سنوات النوم على الجمر… هل كان جود القدر يوما معدودا أم كان إمساكه معهودا، لم يكن كذلك بل خال نفسه كذلك فقط…
هل تستطيع قراءة أسرار غيرك، ماوراء السطور،… ، تكذب إن قلت لا فأنت أصلا لا تعرف إن كان كلاما أم رمزا…. ،وهل الرمز إلا شيء من شيء ظننّاه كلاما، نقوّمه ونصوغه على وجه يبدو لنا هو الأبهى … وعلى نحو نظنّه نحو السّماء فينا وهو ليس إلا نفخات بقايا روحنا فينا…
مازلنا نؤجّل…. نؤجّل السّمر و الفرح، نؤجّل العطاء والمدح، نؤجّل الحبّ والشكر، نؤجّل الهتاف والنصر، ونؤجّل الحياة لأنّنا كنّا نعتقد يوما قبل أن ننسى الاعتقاد الأول أنّنا أرباب المستقبل نطرّزه بأيدينا كما تفعل آلهة بابل ذلك، كنّا نظنّ اعتقادا نسخ الاعتقاد الأصل لكنّنا عندما خُدعنا كما خُدع أبونا الأوّل عاد إلينا اعتقاد أصيل فينا نسخته أرواح شريرة، فصرنا: لا نؤجّل الحبّ لأنّه بلسم الحياة، لا نؤجّل الشكر لأنّه وفاء للحياة، لا نؤجّل العطاء لأنّه خبز الحياة، لا نؤجّل الصدق لأنّه أمل الحياة في الغد، لا نؤجّل الفرح لأنّه معطي الحياة، لا نؤجّل الموت لأنّه نكهة الحياة ولأنّه الحياة فإنّنا نعدّه كلّ يوم في دعاء الهزيع الأخير من الليل، وفي تهجّد الفجر وفي فطور الصّباح وفي التّحايا الصّباحيّة وفي ثنايا أمسياتنا الشتوية والصيفيّة…..
ماعاد التأجيل ديدننا فديننا صار الحديث والدّعاء والكلمة…