إساءة وعفو

قال رجاء بن حيوة: من لم يؤاخ إلا من لا عيب فيه قلّ صديقه، ومن لم يرض من صديقه إلا بالإخلاص له دام سخطه، ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه.
قيل لخالد بن صفوان: أي إخوانك أحب إليك…؟
قال: من غفر ذللي، وقطع عللي، وبلّغني أملي.
ومن حق الإخوان أن تُغفر ذلتهم، وتُستر هفوتهم، فمن رام بريئا من الزلات، سليما من الهفوات، رام أمرا معوزا.
والعفو عن أصحاب الإساءة من الشكر لله الذي أقدرك على الأخذ بحقك وأن تقتص لنفسك فتركت ذلك لوجه الله.

عن عبد اللَّه بن عباسٍ رضيَ اللَّهُ عنهما قال: (قدِمَ عيينة بن حصنِ بن حذَيفةَ بن بدر فنزلَ على إبن أخيه الحرِّ بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يُدْنيهم عمرُ، وكان القراء أصحابَ مجلس عمرَ ومشاورَته كهولاً كانوا أو شُباناً، فقال عيينة لإبن أخيهِ: يا إبن أخي، هل لكَ وجهٌ عندَ هذا الأمير فتستأذن لي عليه…؟ قال: سأستأذن لك عليه.

قال ابن عباسٍ فاستأذنَ لعيينة، فلما دخل قال: يا إبن الخطاب، واللَّه ما تعطينا الجزْل، وما تحكمُ بيننا بالعدل. فغضبَ عمرُ حتى همَّ بأن يقع به، فقال الْحرُّ: يا أَميرَ المؤمنين، إنَّ اللَّه تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرِض عن الجاهلين) ، وإنَّ هذا من الجاهلين. فواللَّه ما جاوزَها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عندَ كتاب اللَّه) رواه البخاري.
قال إبن القيم رحمه الله: كان بعض أصحاب إبن تيمية الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي كأبن تيمية لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعوا على أحد من خصومه قط، بل كان يدعوا لهم، وجئته يوما مبشرا بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم من أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسروا به ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه.
وهذا إبن مخلوف كان من أشد الناس عداوة لشيخ الإسلام، بل إنه ممن أفتى بقتله، كان يقول: ما رأينا مثل إبن تيمية؛ حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا.
وهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، الذي ناله من الأذى الشيء الكثير والذي يعجز عنه أشداء الرجال، فصبر واحتسب، وسلك مع خصومه مواقف متميزة، حيث جعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: {وليعفوا وليصفحوا}، ويقول: ما ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك وقد قال تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين}.
ومن العجلة وقلة الإحتمال ومجافاة الإخوان تركهم إذا أخطؤوا، فتكون المقابلة بالجفوة، والعقوبة على الهفوة، متناسيا طيب ما مضى وحقوقا تلزم بخير من هذا، ومن كان كذلك فلن يعدم زمنا يكون فيه فريدا وحيدا وقد تفرق من حوله.
وعن يونس بن عبدالأعلى قال: قال لي الشافعي: يا يونس …، إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادر بالعداوة، وقطع الولاية، فتكون ممن أزال يقينه بالشك، ولكن القه وقل له: بلغني عنك كذا وكذا، وأحذر أن تسمي له المبلّغ، فإن أنكر ذلك فقل له: أنت عندي أصدق وأبر، ولا تزيدن على ذلك شيئا، وإن أعترف بذلك فرأيت له في ذلك وجها لعذر فاقبله منه، وإن لم تر ذلك فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك…؟ فإن ذكر ما له وجه من العذر فأقبل منه، وإن لم تر لذلك وجها لعذر وضاق عليك المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة، ثم أنت بالخيار، إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه، والعفو أقرب للتقوى، وأبلغ في الكرم لقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله}، فإن نازعتك نفسك بالمكافأة ففكر فيما سبق له لديك من الإحسان فعدها ثم ابدر له إحسانا بهذه السيئة، ولا تبخسن باقي إحسانه السالف بهذه السيئة، فإن ذلك الظلم بعينه، يا يونس …، إذا كان لك صديق فشد يدك به، فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهل.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى