المدينة الفاضلة


العنود ناصر السرحان
في حدودِ مُخيلتي و بينَ طيّات أفكاري تقعُ مدينتي الفاضلة ، سُورها من سلام ، و قُصورها من مرمرِ الوئام ، حدائقها غناء تُعطر الأجواءَ بعبيرِ الكرم والسخاء ، والناس فيها بين أطفال كطيور الجنان و شباب يشعّ بالقوة والعزة وأهل للوفاء ، أما الشيوخ هم مكمن الحكمة ، وأحضان دافئة تبعث الأمان ، و الجميع فيها يحيا بعطاءِ الحب والإحترام ، يتقاسمون الآمال ويتهادون جبر الخواطر ، وتُصافحهم أيدي التسامح ، الحياة فيها مزدهرة بالتعاون و الصدق و الإخلاص .
و لكن ! مع مرور الأيام ، بدأ ساكنيها بالتناقص ، و أخذ الناس بالهجرة فرادى و جماعات ، وشيئاً فشيئاً بدأت تخلو الطرقات و لم تعد تُجلجل تلك الضحكات في أنحائها ، أظلمت دُورها و خبت أضواء لياليها ، و أصبحت المدينة شبة خالية إلا من بعض المتمسكين بها.
راودتني الحيرة ! أليست هذه المدينة كقطعة من الجنة ؟!
فلماذا النزوح ؟!
سمعتُ صوتاً متعباً من داخلي يقول : حان دورك لتشدي الرحال إلى أرض الواقع ، وتكسري طوق المثالية وتخرجي من هذا الخيال الذي يعارض طبيعتك البشرية ، جاء الوقت الذي يجب أن ترحلي مع البقية ، فلا معنى في الحياة يسمى ( المثالية ) ، بل هي أكثر مايُفقد الإنسان سلام قلبه وطمانينة روحه .
المثالية معناها أن تكون كاملاً بلا أخطاء و لا نقصان ، أن تكون أكبر من طاقتك وتُقدم أكثر وأكثر ، ونحنُ بشر لا يمكن لأحدنا أن يكون كاملاً في عطاءه ، علاقاته ، عمله وحياته طوال الوقت .
خُلقنا بطاقاتٍ متعددة مابين تقدم وتأخر ، إخفاق وصواب ، خير وشر، وُجدنا لنعطي أفضل ماعندنا بحسب إمكانياتنا وظروفنا ، لم نخلق لنكون ملائكة ، لم نُخلق لنسير طريقاً مُتعباً مستنزفاً للعمر والجهد ، ومهما سرنا فيه فلن نصل أبداً ؛ لأن وجهتنا ليس لها وجود .
فلترجعي إلى واقعك وتعيشي جمال الحياة بكل مافيها ، فمدينتك الفاضلة ليست للبشر ، و غير صالحة للحياة .