لولا فسحة الأمل

لن ينسى مصطفى ذلك اليوم أبدا، لن ينسى تلك اللحظات الجميلة التي قضاها صحبة حبيبته ذلك المساء، ستظل أحاديثهما المطولة راسخة في ذاكرته، ستبقى ضحكاتها معزوفته المفضلة، سيتذكر دائما تلك القبلة التي طبعتها على خده الأيمن لحظة وداعهما، لعله يذكر جيدا ما انتابها من حياء وخجل حينها، إذ لم تنبس بكلمة ومضت مسرعة.

جالت في ذهنه جميع هذه الافكار وهو يخطو خطواته المتأنية الثابتة عائدا إلى المنزل. لقد إعتاد ذلك المشي الرصين لحظة شروده أو تفكيره في أمر جلل. لعله يحارب أحزانه بهدوئه المقيت وصمته الممل.الا أنه تناسى حزنه في تلك اللحظة ومضى يدندن أغنية لعبد الحليم حافظ والتي يقول فيها” روحت أنا روحت…” لقد كان يدندن في حذر ليس خشية من المارة ولكنه شعر بخاطر غريب عجيب مخيف يتملكه ويسلب منه روحه. وقد إعتاد ذلك الشعور في السنوات الأخيرة .

كان الطقس شديد البرودة ، وكان مصطفى يرتعش من هذا البرد القارس، إذ لم ينعمه ذلك المعطف القديم البالي بالدفء، لعل دفء مشاعره الملتهبة قد هون عليه الأمر قليلا. فجأة ، تلبدت الغيوم السوداء في السماء منبئة بليلة ماطرة، فأسرع الشاب العشريني الخطى متجها صوب المنزل.

لدى وصوله، ازداد الخوف الذي يتملكه حدة كما بدأ قلبه ينبض بشدة، لعل الخطر الداهم قد إقترب، لعل حظه العاثر يلاحقه حتى في أجمل يوم في حياته، لقد ظن أنه النور في آخر النفق، لكن ربما لا يزال النفق طويلا، لا زال سيسرد حكايات وحكايات، ربما الاسوأ لم يأت بعد. لا يدري.

فجأة ، تعالى صوت أمه الحنون من المطبخ قاطعا سلسلة أفكاره القاتمة، ” أهذا أنت يا مصطفى ؟” أجابها بإقتضاب” نعم يا أمي.” قابلها بتلك الابتسامة الباهتة المتعبة وقابلته بوجه ملائكي يشفي العليل. قبل جبينها فازداد وجهها نورا ثم إتجه نحو غرفته. غير ملابسه ثم ظل يراقب هطول المطر من النافذة، كان يستمتع برؤية هذا المنظر الجميل، كان ولوعا بتأمل غضب الطبيعة في أبهى تجلياته خاصة كلما ازداد صوت الرعد حدة واشتد البرق لمعانا.

ويينما هو منساب مع هذه اللوحة الربانية الرائعة، خطر بباله صديقته المقربة ليخبرها عن حبيبته التي أخفاها عنها طويلا ، لعل الوقت قد حان ليبوح لها بهذا السر الخطير. كانت أمل قريبة إلى روحه، كانت صديقة الطفولة، لعل طيبتها ووداعتها جعلاها تفوز بقلبه الذي أغلق بابه أمام جل مريده، كانت تصغره بسنوات قليلة، لطالما اعتبرها تلك الرفيقة الجميلة بشعرها الذهبي وعيينيها الخضراوين وملامح وجهها الطفولية الهادئة، لا يزال يراها كطفلة صغيرة مشاغبة لا تدري ماذا تفعل ولا تقصد ماذا تقول ، كانت عفوية أكثر مما ينبغي، لا تزال في نظره تلك الطفلة الشقية المدللة المتعبة، كانت رقيقة كالنسيم العليل ومرهفة الاحساس.

كان يستمتع بأحاديثها الطويلة التي لا تنتهي، كان يظنها شهرزاد، تلك المرأة التي لن يجرؤ على فراقها، تلك الايقونة التي لم يستطع شهريار قتلها بحسامه فكيف له أن يذيب روحها لوعة بفراقه. كان مصطفى مهوسا برفيقة دربه أمل، كان يظنها الدنيا، كان مولعا بها إلى حد الجنون، كانت قارب النجاة، ملجأه الوحيد عندما يبلغ إعصار قلبه منتهاه، كانت أمل حياته، كانت تبادله تلك المشاعر الاخوية الفياضة، كانت عذبة كالطفولة، هادئة كالطبيعة في رومانسيتها الحالمة، لعلها الذكرى الأجمل في طفولته وشبابه، كان لقاؤها حدثا مهما بالنسبة لمصطفى، هل تسنى لأحد ان يلاقي الملائكة يوما؟ كان مصطفى يلاقي ملاكه الحالم كل يوم، يرافقه إلى المكتبة العمومية لمطالعة النفائس الادبية القيمة، كانت أمل مولعة بميكيافيلي والمعري والاصفهاني وسارتر وغيرهم. وترافقه دوما الى شاطئ البحر، فتصحب معها قهوتها ذات الرائحة الزكية وقطع المرطبات اللذيذة التي اعدتها خصيصا بالمنزل وبعض السكاكر أيضاً. كانا يمضيان وقتا ممتعا معا، كان يصطحبها الى كل مكان يرتاده، بل كانت عصاه التي يتكؤ عليها في رحلته الدنيوية. كان يذكر نظراتها الغريبة المفعمة بالحنان والتي لم يعرف مغزاها الا مؤخرا. دائما ما كان يستمتع بالنظر الى عينيها الباسمتين أو المتظاهرة بالابتسام والتي تخفي حزنا لم يدرك سره إلا بعد فوات الاوان.كانت وكانت وكانت.

لقد فقد مصطفى عصاه التي طالما اتكأ عليها في ازماته فسقط مغشيا عليه من وقع الصدمة. ربما كان وفاة أمل منذ أكثر من عام بعد اصابتها بمرض السرطان بمثابة رصاصة الرحمة التي اطلقتها الاقدار نحو قلب مصطفى. لقد حاول مرارا العودة الى حياته الطبيعية لكن سرعان ما تنتكس روحه من جديد، لعل ظهور حبيبته في حياته مرة أخرى ساعده على الصمود قليلا لكن دون جدوى، لقد تعود على رقيقة دربه، تلك التي لازمته طيلة حياته، كيف له أن ينساها بهذه السهولة، يجب أن يخبرها بكل صغيرة وكبيرة عن نفسه، لم يستيقظ مصطفى بعد من هول الصدمة، انهمرت دموعه فجأة وهم بالبكاء واستلقى على سريره طالبا النوم ، زاهدا فيما سيأتي متذكرا ما قد مضى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى