هارون الرشيد
الخليفة هارون الرشيد، هو أمير المؤمنين هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبدالله المنصور بن محمد بن علي ابن عبدالله بن العباس بن عبد المطلب، أبو جعفر، ولد بالري لثلاث بقين من ذي الحجة سنة خمسين ومائة، وأمه أم ولد يقال لها الخيزران، واستخلف في اليوم الذي توفي فيه أخوه موسى الهادي، سنة سبعين ومائة، وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة، وثلاثة أشهر، وأياما. وولد المأمون في تلك الليلة، فاجتمعت له البشارة بالخلافة والولد، وكان يقال: ولد في هذه الليلة خليفة، وولي خليفة، ومات خليفة، ولم يكن في سائر الزمان ليلة وُلد فيها خليفة وتُوفي فيها خليفة وقام فيها خليفة غيرها. وكان هارون أبيضا طويلا، مسمنا جميلا، قد وخطه الشيب.
وحكى بعض أصحابه أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، إلا أن يعرض له علة، وكان يتصدق في كل يوم من صلب ماله بألف درهم، وكان إذا حج أحج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وفيه يقول سلم الخاسر:
بيدي أمير المؤمنين المصطفى
. هارون قام الدين والمنهاج
إن الخلائف من قريش خيرها
. بعد النبي خليفة حجاج
وإذا لم يحج أحج في كل سنة ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة، والكسوة الظاهرة، وكان يقتفي أخلاق المنصور ويعمل بها إلا في العطايا والجوائز، فإنه كان أسنى الناس عطية ابتداء وسؤالا، وكان لا يضيع عنده يد ولا عارفة، وكان لا يؤخر عطاء اليوم إلى عطاء غد، وكان يحب الفقه والفقهاء، ويميل إلى العلماء، ويحب الشعر والشعراء ويعظم في صدره الأدب والأدباء وكان يكره المراء في الدين والجدال، ويقول إنه لخليق أن لا ينتج خيرا، وكان يصغي إلى المديح ويحبه ويجزل عليه العطاء، وكما كان يغضب ويقسو على أعدائه ومناوئيه فقد كان يعفو ويصفح، ويهب الأعطيات للمسيئين، وكان قريب الدمعة غزيرها، وكان نقش خاتم هارون الرشيد: (لا إله إلا الله)، وخاتم آخر: (كن من الله على حذر).
وعندما آلت الخلافة إلى هارون الرشيد قدم أعرابي فقيل له: فيم جئت…؟
قال: أتيت برسالة.
قال: إئت بها.
قال: أتاني آت في منامي فقال: ائتِ أمير المؤمنين فأبلغه هذه الأبيات:
توارثت الخلافة في قريشٍ
. تُزف إليكما أبداً عروسا
إلى هارون تهدى بعد موسى
. تميس وما لها ألا تميسا
وقال إبراهيم الموصلي في تهنئة الرشيد بالخلافة:
ألم تر أن الشمس كانت مريضة
. فلما أتى هارون أشرق نورها
تلبّست الدنيا جمالا بملكه
. فهارون واليها ويحيى وزيرها
وغناه بهما من وراء الحجاب، فوصله بمائة ألف دينار ويحيى بخمسين ألفاً.
وعن محمد بن أحمد بن البراء قال: الرشيد هارون بن المهدي كان يحج سنة، ويغزو سنة، وقال أبو الشغلي:
فمن يطلب لقاءك أو يرده
. فبالحرمين أو أقصى الثغور
ففي أرض العدو على طمر
. وفي أرض البنية فوق كور
وما جاز الثغور سواك خلق
. من المستخلفين على الأمور
ودخل النمري يوماً على الرشيد وأنشده قوله:
ما تنقضي حسرة مني ولا جزع
. إذا ذكرت شباباً ليس يرتجع
بان الشباب وفاتتني بلذته
. صروف دهر وأيام لها خدع
ما كنت أُوفى شبابي كنه غربته
. حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع
فقال الرشيد: أحسن والله، لا يتهنأ أحد بعيش حتى يخطر في رداء الشباب.
ومن القصيدة في المديح:
إن المكارم والمعروف أودية
. أحلك الله منها حيث تجتمع
إذا رفعت امرءاً فالله يرفعه
. ومن وضعت من الأقوام يتضع
نفسي فداؤك والأبطال معلمة
. يوم الوغى والمنايا بينها قُرع
فأمر الرشيد له بمائة ألف درهم.