بقايا مقال قديم:” حب على هامش السيرة”

لقد أتى اليوم المشهود. لم ينم جيدا ليلة البارحة، فقد أخذ منه الأرق مأخذا عظيما. سيقابلها اليوم بعد طول انتظار. غمرته أفكار كثيرة. تذكر صداقتهما أيام الدراسة الثانوية. لم يتزاملا طيلة هذه السنوات الأربعة. كانت شغوفة بالعلوم والرياضيات، بينما شغف هو بالأدب والفلسفة. جمعهما حب الأدب العربي كما ألفت بين قلوبهما مسرحيات شكسبير وتوفيق الحكيم. كان يعشق فطنتها، ذكاءها ، سرعة بديهتها، لباقة حديثها، لطفها، فصاحتها، ثقتها بنفسها، دلالها، مرحها، تلقائيتها. كانت تنسيه همومه وأحزانه ، كانت مصدر سعادته. ولع بجمالها الخلاب ، أسرته عيناها الزرقاوان، منذ صغره يعشق العيون الزرقاء ليس لجاذبيتها وإنما لأنها عيون أمه. كان وجهها أبيضا كالثلج بياض وجه أمه. تذيب قلبه ابتسامتها البريئة، إنها ابتسامة أمه الملائكية، لقد فتن أيضا بشعرها الذهبي وزادته أشعة الشمس رونقا وبريقا. لعله أحبها لأنها والدته ولكنها لم تبلغ بعد سن العشرين. أفاق متأخرا ذلك اليوم، أراد أن يكون حاضر الذهن، هادئ المزاج ،حرص ألا يكون ذهنه مشوشا كالعادة. وضع اليوم هواجسه ومخاوفه على جنب عله يبلغ المنى وينصهر في علاقة غرامية جدية. إذ لم يكن يوما من أهل الغرام، رغم أنه يملك في سجله العديد من العلاقات النسائية العابرة، لكن لم تجذبه أية فتاة قابلها في حياته، ربما كان يبحث عن ظل حبيبته، عن روحها، عن شمعة تضئ حياته من جديد. كما لم يكن حاسما وثابتا في العلاقات العاطفية، حيث كان كثير التوجس من الحب والزواج. ولكن مالذي يدفعه للقول بأنها علاقة غرامية، هي لم تصرح بحبها يوما وهو كذلك، ربما عادت علاقتهما إلى الواجهة منذ عام تقريبا، لقد بحث عنها في كل مكان ، في كل الأزقة وفي كل الشوارع، لعله كان يبحث عن روحه الضائعة وقتها، عن حلمه، عن بهجته، عن قلبه الضائع وسط الزحام، عن ملاكه الناعم، عن حبه الأول. سأل عنها الأصدقاء والأحباب فأخبروه أنها غادرت إلى باريس لإستكمال دراستها الجامعية في مجال الهندسة. بحث عنها مرارا وتكرارا على مواقع الانترنت لكنه لم يجدها، إلتجأ بعد تردد شديد دام لسنوات لإنشاء حساب على موقع التواصل الاجتماعي الفايسبوك عله يظفر بها وبالفعل نال المراد. و دائماً ما كان يسأل نفسه لماذا لم يدخل هذا العالم الافتراضي من قبل؟ هل كان خائفا من هذا العالم المجهول أم كان إنسانا مبدئيا يرفض التقليد أم مجرد إمرء يدعي المثالية؟ لا يدري . تحدثا كثيراً في الفترة الاخيرة، وقد أخفى عنها خشيته من أن تكون قد عرفت الحب بعده، لم يرد لها أن تهوى رجلا فرنسيا أشقرا، عيناه زرقاوان كلون المحيط، لم يرد لها أن تهجر قلبه وترتمي في أحضان المحيط، يخاف عليها من الغرق في المجهول، لقد خاف فراقها.ولم تغب عن باله تلك الفكرة حتى أنه كان يردد دائما أغنية زياد الرحباني الشهيرة “عايشة وحدها بلاك وبلا حبك يا ولد”. إلا أنها سرعان ما فندت له جميع هذه الأفكار، حيث لم يشغل بالها موضوع الارتباط، كما لم يفتنها سحر العيون الأجنبية، لكنها في المقابل، أطنبت في معاني الشوق والحنين، إنها مشتاقة لرؤيته، إشتياق البحر للسفن وحنين الأرض للمطر وشوق العصافير لعشها الصغير. توقف مصطفى عن جلد نفسه بأفكاره العقيمة وتنبؤاته الكثيرة وشرب قهوته السوداء على عجل حتى أنه نسي أن يدخن سيجارته الصباحية. إرتدى ملابسه، لم تكن أنيقة بما يكفي لهذا اللقاء الأسطوري ، بل كانت بسيطة كبساطته في هذه الحياة. لقد انعكس طبعه على ملابسه أيضا، حتى أنه إرتدى معطفه العادي أو الرسمي، يقال أن البعرة تدل على البعير، وهاهو معطفه يدل على وجوده في هذه الحياة . كان الطقس شديد البرودة في الخارج،إننا في منتصف شهر ديسمبر. نظر إلى المرآة، تأمل ملامحه، ابتسم قليلا، لعله قد تغير عن ما مضى ، حتى حبوب الشباب قد غابت قليلا عن وجهه، مشط مصطفى شعره في هدوء، ثم توجه صوب أمه ،تظاهر بالابتسام كالعادة، قبل جبينها برفق، تأمل ابتسامتها، ثم ودعها مفارقا. رغم نشوته بلقاء حبيبته العائدة إلى حضنه بعد سنين، في الطريق ،لم يستطع نسيان ما مر به من أزمات طيلة السنوات الماضية، لقد كان كابوسا حقيقيا. أوشكت دموعه على خيانته، لقد خانته كثيرا في الآونة الأخيرة، إلا أنه تمالك نفسه ومنعها من النزول. لقد كان حزنا ، أسفا، ألما يمشي على الأرض. وصل إلى المكان المقصود قبل ربع ساعة من الموعد المحدد، كان مقها قرب شاطئ البحر، إختار هذا المكان لهدوئه وجماله ورومانسيته ، وقد وافقته صديقته الجميلة دون تردد. جلس مصطفى على المقعد وأخرج علبتي السجائر والكبريت، أشعل سيجارته متأملا البحر في هدوء، كان شديد الهيجان هذا اليوم مثل مشاعره المتعطشة لرؤيتها، ترى كيف سيكون شكل هذا اللقاء؟ كيف سيقابلها؟ كيف سيسلم عليها ؟ هل يجوز له تقبيلها، أم أن ذلك سيحرجها،؟هل يجوز له احتضانها في دفء كما يحتضن البحر ضحاياه؟ لا يدري. سمع خطوات حثيثة قد أتت من خلفه، هاهي قد مرت بجانبه لكنها لم تره، ناداها بلطف، فالتفتت والابتسامة تعلو محياها، انها أجمل ابتسامة لمحها في التاريخ، لا يستطيع أي شاعر في هذا العالم وصفها أو محاكاتها. تأملته في صمت وتأمل عينيها في ترقب شديد، ماذا دهاها؟ لماذا كل هذه الريبة وكل هذا التردد؟، ألم تعرفه يا ترى؟،هل بدا غريبا عنها؟لكنها لم تبدو غريبة عنه. لقد تغير شكلها قليلاً، لكنها لا تزال كما هي ، حبيبته التي يعرفها منذ سنين. انقطع الصمت، حيث بادرته بالتحية والضحكة قد ملأت أسارير وجهها حبورا “كيف حالك يا مصطفى؟” ود أن يجيبها “الحمدلله يا غرامي”، ولكنه لم يرغب في أن يكون متسرعا. أجابها بإقتضاب” سررت جدا بوجودك معي الآن”.لمعت عيناها وابتسمت من جديد.جلسا وقد بدئا أحاديثهما العالقة منذ غيابها. لقد قيل أن كل الاحلام تنتهي في ديسمبر ، ولكن هاهي تبدأ من جديد.