الأدب والشعر

الحقيقة المطلقة مقابل الحقيقة النسبية دراسة فلسفية.. الجزء الأول 

امال بو حرب

امال بو حرب

تعتبر مسألة الحقيقة من أهم المواضيع التي تطرق إليها الفلاسفة عبر التاريخ، حيث يشكل الاختلاف بين الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية محورًا لنقاشات فلسفية عميقة. تسعى هذه الدراسة إلى فهم الفروق بين هذين المفهومين، وتكشف بعض الآراء الفلسفية البارزة التي ساهمت في تشكيل نظرتنا للحقيقة.

تُشير الحقيقة المطلقة إلى الحقائق التي تُعتبر صحيحة في جميع الظروف والأزمان دون استثناء، وهي الحقائق التي لا ترتبط بسياق معين. على سبيل المثال، تعتبر القوانين الفيزيائية المعروفة كقانون الجاذبية حقائق مطلقة لأنها تنطبق بغض النظر عن المكان أو الزمان. بالمقابل، تتمحور الحقيقة النسبية حول تلك الحقائق التي تعتمد على السياق والموقف، إذ قد تتغير تصوراتنا عنها وفقًا للتجارب الفردية، الثقافات، والمعتقدات. وهذا يظهر جليًا في قول الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه: “ليست هناك حقائق، بل توجد فقط وجهات نظر.”

لنفهم هذه الديناميكية، يمكن الرجوع إلى آراء بعض الفلاسفة الذين تناولوا موضوع الحقيقة من زوايا مختلفة. فعلى سبيل المثال، اعتبر أفلاطون أن هناك عالمًا مثاليًا من الأفكار يمثل الحقائق المطلقة، وأن العالم المادي هو مجرد ظلال أو تجسيدات غير كاملة لهذه الأفكار. في قوله “الحقيقة هي ما هو دائم وثابت في مقابل ما هو متغير وزائل”، نجد تأكيدًا على قيمة الثبات في الحقائق. بينما لم يوافقه أرسطو الرأي، حيث تبنى وجهة نظر أكثر واقعية، معتبرًا أن الحقيقة هي ما يتوافق مع الواقع والملاحظات. وعبارته الشهيرة تلخص هذه الفكرة: “الحقيقة هي قول ما هو موجود أنه موجود، وما هو غير موجود أنه غير موجود.”

لكن، مع تقدم الزمن، جاءت أفكار الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم، الذي أضاف بُعدًا آخر من الشك وتساءل حول إمكانية الوصول إلى الحقيقة المطلقة. يشير هيوم في كتابه “بحث في الفهم البشري” إلى أن المعرفة البشرية محدودة بالتجربة الحسية، مما يجعل كل معرفة تتسم بالطابع النسبي، حيث يقول: “لا يمكننا أن نستنتج من التجربة الحسية شيئًا مطلقًا، بل هي فقط أحكام مبنية على التجارب المتكررة.” هنا، نرى كيف أن الشك في المعرفة يمكن أن يفتح آفاقًا لفهم أفضل للحقيقة.

أما نيتشه، فقد تجاوز هذه النقاشات إلى مسألة القيم الأخلاقية، حيث أوضح أن هذه القيم تختلف باختلاف الثقافات والتاريخ ويعبّر عن ذلك بقوله: “كل قيمة هي مجرد تعبير عن القوة؛ الحقيقة ليست سمة ثابتة، بل هي مجرد توازن للوجهات النظر المختلفة.” وبالتالي، فإن رؤيته تسلط الضوء على كيفية بناء الحقيقة على أساس القوة والنفوذ الاجتماعي، مما يعقد مفاهيمنا التقليدية عن الحقيقة المطلقة.

في عالمنا اليوم، تتجلى تأثيرات الاختلاف بين الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية في جوانب متعددة من حياتنا. فنحن نرى أن الاستخدام المتزايد لوسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي يعكس أسلوب حياة يعتمد على وجهات النظر النسبية. تصبح الأخبار في بعض الأحيان تجسيدًا للحقيقة النسبية، حيث تُعلَّق الآراء الفردية على الأحداث، مما يخلق تحديًا لفهم الواقع بشكل دقيق.

إن دراسة الحقيقة المطلقة مقابل الحقيقة النسبية تكشف لنا عن تعقيد هذه المفاهيم في فهم الوجود البشري. من خلال التأمل في آراء الفلاسفة وملاحظاتهم النقدية، يمكننا استيعاب أن الحقيقة ليست فقط كشفًا عن ما هو “صحيح”، بل هي رحلة لفهم أعمق للواقع وقبول وجهات النظر المختلفة

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى