الأدب والشعر

قراءة فنية بعنوان “صدى الرفض رحلة في عمق النفس “قصيدة الدكتور كاظم العطشان من العراق

صراعات الهوية في الشعر

آمال بوحرب باحثة …تونس

آمال بوحرب باحثة …تونس

. لا …..
لن تلويَ …
بعدَ الآن ذِراعي
لا…
ولَنْ تحظى…
بصيدِ الرجيفِ عند وداعي
ولا فَحيحَ ريحُكَ
يُحني هاماتَ شِراعي
لا ….
لنْ تعودَ لمحرابِ نَبضي
فمازال عِطرُ آثامكَ
يدبي ثَمِلا….
في قدَاسةِ أوجاعي
وما عادَ يستهويكَ كأس رَحيقي
كيفَ لا
وقد أدمَنتَ كأسَ الأفاعي
ولمْ يَعُدْ ….
يقلقُني فيك الرجاءُ
ولا يَستفِزُّني فيكَ الغناءُ
ولايهفو لصوت الدفِّ سماعي
لا…
لَنْ تلويَ بعدَ الآن ذراعي

_______ كاظم العطشان _______

 

يمثل الرفض أحد أبرز المفاهيم التي تسود الشعر الحديث، حيث أصبح وسيلة للتعبير عن المآسي والألم، والخيبة الناتجة عن التحولات الاجتماعية والسياسية التي يعيشها العالم. الشعراء اليوم يتخطون حدود اللغة التقليدية ليعبّروا عن مشاعرهم بحرية، رافضين القيم الموروثة والمظاهر السطحية التي لا تعكس الفوضى الداخلية التي يعيشها الإنسان. هذا الرفض ليس موجهًا فقط ضد الأنظمة الاجتماعية والسياسية، بل يشمل أيضًا الجوانب الذاتية، حيث يتجلى الصراع بين الهوية الفعلية والضغط الاجتماعي الذي يسعى إلى تقييدها. إن الشعر الحديث يتسم بالتجريب والابتكار، مما يمنح الشاعر مساحة واسعة للتعبير عن مشاعر الإحباط، والعزلة، والقلق، مما يُحوّل القصيدة إلى مرآة تعكس الواقع المعاصر بشكل حيوي ومتجدد.
تُعبر قصيدة “لا…” للشاعر كاظم العطشان عن عمق التجربة الإنسانية من خلال تصوير صراع الوجود، وتعكس تجربة الفقد والخسارة بأسلوب أدبي راقٍ. في هذه القراءة، سنستكشف الأبعاد الوجودية والنفسية والمعرفية التي تحملها القصيدة، مستندين إلى استشهادات من الفلاسفة والنقاد لفهم الديناميات التي تُشعل هذه الكلمات.
الاستهلال: صوت الرفض
تبدأ القصيدة بصوت حازم يتكرر فيه “لا…”، مما يُرسخ شعورًا بالرفض والقوة. هذا الرفض ليس مجرد نفي لشخص معين، بل هو نفي جزء من الذات. يُظهر هذا النداء القوي رغبة الشاعر في استعادة السيطرة على نفسه بعد تجربة مؤلمة. يقول الفيلسوف وجوديّة مارتن هايدغر: “الوجود هو ما يتمحور حوله الصراع بين الذات والوجود”، وهو ما يتجلى في هذه الكلمات.
بُعد القلق الوجودي
يتجلى القلق الوجودي في الأسطر التي تتحدث عن “عطر آثامكَ” و”قداسة أوجاعي”. هنا، يُبرز الشاعر تأثير الذكريات السلبية على تجربته الوجودية. يشير الفيلسوف جان بول سارتر إلى أن “الإنسان محكوم عليه بالحرية”، مما يعني أن اتخاذ القرار بشأن كيفية التفاعل مع تجارب الحياة، سواء كانت مؤلمة أو مفرحة، هو الطريق نحو الوجود الحقيقي. الشاعر يتخذ قرارًا حازمًا، موجهًا نحو التحرر من الماضي الذي أدمَن عليه.
الاغتراب بين الحاضر والماضي
في عبارة “وما عادَ يستهويكَ كأس رحيقي”، يتضح الاغتراب الذي تعيشه الذات. إذ تعكس الكلمات فشل العلاقة بين الشاعر والآخر، حيث كان هناك تبادل سابق للحياة والمشاعر، ولكن هذه الروابط قد ذُبحت. يتماشى هذا مع أفكار نيتشه حول “موت الإله”، حيث يشير إلى انهيار القيم التقليدية. في هذه الحالة، يأخذ الشاعر موقفًا ضد كل ما تمثله العلاقة التي عايشها، مُعلنًا عن موت العلاقة كما يموت شيء عزيز في نفس الفرد.
الكأس المسمومة: السقوط في الهوة
يصبح الإدمان على “كأس الأفاعي” رمزًا للخيبات والمآسي التي تتعلق بحياة الشاعر، ما يعكس كيف يمكن للفرد أن يسقط في هوة من الألم والعزلة نتيجة لتجارب الماضي. في هذه الصورة، يمكننا الاستشهاد بفرويد الذي قال: “الألم لا يُنسى، بل يتم تحويله إلى جزء من النفس”. تُظهر هذه الكلمات كيف يتم تحويل الألم إلى هوية، مما يخلق صراعًا داخليًا بين الرغبة في التحرر والانغماس في الألم.
العزلة كسبيل للوجود الحقيقي
تتوج القصيدة بتحقيق معنى العزلة، حيث تنتهي بعبارة “لا… لن تلويَ بعد الآن ذراعي”. يمثل ذلك اللحظة التي يستعيد فيها الشاعر قوّته وإرادته. يُشير هايدجر أيضًا إلى أن “السكون والهدوء هما موجودان في قلب العزلة”. إن هذه اللحظة ليست منافية للحياة، بل تُؤكدها من خلال اكتشاف الذات. الشاعر هنا لا يتقبل الخضوع لأي شكل من أشكال الانصياع، مما يُبرز أهمية الاستقلالية والحرية في الوجود.
البعد النفسي للقصيدة “لا…” لكاظم العطشان:
تُعد القصيدة “لا…” واحدة من الأعمال الشعرية التي تتعامل بعمق مع الجانب النفسي للذات الإنسانية، وخصوصًا فيما يتعلق بالرفض والفقد. من خلال تحليلها النفسي، يمكننا استكشاف عدة جوانب تعكس الصراعات الداخلية والمشاعر المعقدة التي يحملها الشاعر.

صراع الهوية والرفض :يتضح من بداية القصيدة أن الشاعر في حالة من الرفض العميق، حيث تتكرر كلمة “لا…” كرمزٍ للنفور من الارتباطات السابقة والتجارب المؤلمة. هذا الرفض يتمثل في التحولات النفسية للشاعر، والذي يبدو أنه يسعى إلى إعادة بناء هويته بعد الانفصال عن شخصٍ كان له تأثير كبير على حياته. في سياق التحليل النفسي، يُمكن ربط هذا الرفض بمفهوم الدفاع النفسي، حيث يسعى الفرد إلى حماية ذاته من الألم الناتج عن العلاقات المؤلمة.

الحزن والفقد:تتجلى مشاعر الحزن والفقد في تصوير “عطر آثامكَ” و”قداسة أوجاعي”. هنا، يُظهر الشاعر كيف يمكن أن ترتبط الذكريات بالألم، مؤكدًا على أن التجارب السلبية لا تُنسى بسهولة، بل تعتبر جزءًا من الذاكرة النفسية. يُشبه هذا ما وصفه فرويد حول كيفية تأثير التجارب الماضية على السلوكيات الحالية؛ فعندما يتذكر الفرد الألم، فإنه ينغمس في مشاعر الفقد مرة أخرى.
الإدمان على الألم : وإن تشير عبارة “كأس الأفاعي” إلى فكرة الإدمان، لكنها تعكس أيضًا الافتتان بالألم. يتضح أن الشاعر قد وقع في فخ العودة إلى الألم والتقلبات العاطفية، حيث يتردد في التخلص من الألم رغم معرفته بأنه مضر له. هذا السلوك يشير إلى مفهوم “الإدمان العاطفي” الذي وصفه علماء النفس، حيث يتكرر الانغماس في علاقات مؤذية أو ذكريات مؤلمة بحثًا عن شعورٍ زائف بالراحة أو الأمان.
التحرر والوعي الذاتي:مع تزايد تكرار “لا”، يتضح أن الشاعر في طريقه نحو التحرر. هذا النداء النابع من القلب يعكس رغبة حقيقية في تجاوز الألم والتعافي من التجارب السلبية. هذه الديناميكية تشابه عمليات الوعي الذاتي التي يتحدث عنها كارل يونغ، حيث يعبر الفرد عن وعيه الداخلي والرغبة في التحرر من القيود النفسية. السيطرة على العواطف ومعرفة الذات طريق نحو الاستقلال النفسي.
العزلة كوسيلة لتحقيق الذاتي:تختتم القصيدة بتأكيد على العزلة كوسيلة لتحقيق الذات، حيث يشدد الشاعر على ألا يعود ليكون ضحية لعواطفه أو لتجربته الماضية. تُظهر هذه الحالة من العزلة كيف يمكن للرفض أن يؤدي إلى إعادة تقييم الذات وإدراك الهوية الحقيقية بعيدًا عن العلاقات المؤذية. يشير هذا إلى مرحلة نضج نفسي، حيث يأتي الفهم العميق للذات نتيجة للتجارب المؤلمة.
صراع الخسارة لتحقيق الوجود:إنَّ الشعر، كأداة تعبير فني، يلعب دورًا محوريًا في مجاراة الواقع أو رفضه، حيث يحمل في طياته قدرة على إعادة تشكيل التجربة الإنسانية بوسائل جمالية. كما يشير الناقد الأدبي م.م. الولي، عندما يقول: “الشعر هو صوت المجدورين، وهو دعوة للإفصاح عن الذات، ومواجهة القضايا الكبرى بأسلوب فني”. يعكس الرفض في الشعر الحديث انفتاحًا على قضايا المجتمع، ويعبر عن المعاناة والاحتمالات الكامنة في جوهر الوجود، مما يسهم في تعزيز الوعي النقدي لدى المتلقي. إن أهمية الشعر تكمن في قدرته على محاكاة الواقع كعالم متغير ومليء بالتحديات، وعبر نبض الشعراء، يستطيع القارئ إدراك ألمه وفرحه، مما يجعل الشعر تجربة غنية ذات أبعاد إنسانية عميقة وإن تستعرض قصيدة “لا…” لكاظم العطشان تجربة غنية بالتعددية الوجودية فإنها تُظهر الصراعات العاطفية بين الفقد والتمسك، وبين الرفض والقبول وتنقل الكلمات مشاعر الاغتراب والتوتر العاطفي مما يُرسي مفهوم عدم الاستسلام. إن القصيدة تُشكل دعوة دائمة للبحث عن الهوية الفردية، رغم الخسارة أو الألم، مما يثري من عمق الفهم الوجودي الفرد
المصادر:
هايدجر “الوجود والزمن”ترجمة محمد سبيلا.
فريدريك نيتشه،. “هكذا تكلم زرداشت ترجمة حسن بحراوي.
،جان بول سارتر الوجود والعدم*. ترجمة عبد الرحمن بدوي.
-فرويد، سيغموند “فرويد التحليل النفسي للأحلام*. ترجمة محمد خليل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى