د.آمال بو حرب _تونس
الحيرة كأصل للبحث:
الحيرة هي حالتنا الأولى أمام اللغز الذي يمثله العالم إذ يبدو أنها السبيل الوحيد لحماية التفكير من الوقوع في الفخاخ المنحوتة من قبل الحقيقة، ومن هذا المنطلق قد تناول الشعراء والفلاسفة والوجوديون بشكل دقيق الحيرة كقيمة وجودية تلائم الإنسان في مواجهته للطموح والعلم والمعرفة. عند الفلاسفة مثل إيمانويل كانط، الذي يقول: “الحيرة هي بداية التفكير”، وهيجل الذي اعتبر أنه “من خلال الصراع الداخلي بين الرغبات المتناقضة تتولد الحيرة”، نجد الحيرة تصبح محركًا أساسيًا للبحث عن الحقيقة.
وفي الأدب، نجد الكثير من الأمثلة على تأثير الحيرة الوجودية والمعرفية في صياغة التجارب الإنسانية، حيث تشير أعمال دانتي أليغييري إلى “حيرة النفس الإنسانية في مواجهة الخطيئة والخلاص”. وفي الشعر العربي، تعكس أعمال العديد من الشعراء،
كتب الشاعر المتميز والمتفرد أحيانا في الأسلوب واللغة والصورة، الشاعر العراقي حسين السياب،نصا مذهلا بعنوان “بودكاست عن وجه الغربة”
خلفَ نافذةِ العمر
أفتحُ باباً للعناقِ
أهزمُ التأريخَ، وأبحثُ عنكِ في كومةِ رهاناتٍ خاسرة..
حينَ زحفَ الربيعُ
تمايلتْ أغصاني
أحملُ الوردَ والنسرينَ، بمنتهى اللذةِ التي تربكُ الليلَ..
وضعتُ يدي في النهرِ
أحاولُ شرحَ سكوتي
وذاك السلسالُ الذي يقاسمني القُبل وهو يتدلّي فوقَ صدركِ، يضيءُ عتمةَ روحي…
يغريني ضياعُكِ فيّ،
كأنّني آخرُ المدن المنحوتة على شهادة ميلادكِ..
على أطرافِ أصابعهِ يقفُ الصبحُ
يستفزُ أنوثتكِ التي تأتي بالشمس لصغارها…
أيُّها الرائي:
من أينَ تأتي بالدهشةِ وكلُّ الحكايات انطفأت تحتَ رمادِ الغربةِ؟
-لا غرضَ لي مع الشعرِ، سوى الاحتراق على جسدِ القصيدة التي تنمو بين يديكِ
كذنبٍ يتعالى ليغدو خطيئةً في ساحةٍ مليئةٍ بالشياطين..
وفي محاولة متواضعة مني أمام هذا النص الغزير، أردت أن أغوص في اعماق المعنى لنتعرف على طريقة السياب في إبراز معنى الحيرة وأبعادها لاستكشافها من مختلف جوانب القصيدة، من الناحية الفنية إلى الوجودية، مروراً بالأبعاد النفسية والاجتماعية.
1-الحيرة مفتاح الوجود:
تتجلى الحيرة في القصيدة بوضوح من خلال استهلال الشاعر “خلفَ نافذةِ العمر/ أفتحُ باباً للعناقِ”. هنا نجد أن الشاعر يفتح باباً للبحث عن الحقيقة، ولكن ما يجد هو حالة من الحيرة والضياع. يظهر هذا التعبير استعداد الشاعر للبحث وراء المعنى الحقيقي للوجود، رغم أن ذلك قد يؤدي إلى الوقوع في حيرة أكبر. هذا الهاجس يظهر في استخدام الشاعر للاستعارات والتشبيهات، مثل “أهزمُ التأريخَ”، مما يؤكد نبرة التمرّد على القدر والزمن، في محاولة لتحقيق الالتقاء بالمحبوبة. كما يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: “الحيرة مقدمة للحرية، ومن استسلم للحيرة ضيع نفسه.”
2-الحيرة والهوية:
تظهر الحيرة في القصيدة بوصفها بحثاً عن الهوية. عند الشاعر، يبدو أن هذه الحيرة ترتبط بالهوية الشخصية والمكانة الاجتماعية. في قول الشاعر “كأنني آخرُ المدن المنحوتة على شهادة ميلادكِ”، نجد إن الشاعر يبحث عن نفسه في صورة المدينة المنحوتة على شهادة ميلاد المحبوبة، مما يشير إلى فقدان الهوية الاجتماعية والفردية في آنٍ معاً. وقد أشار الفيلسوف الوجودي مارتن هايدغر إلى أن “البحث عن الهوية هو رحلة مرتبطة بحيرة الإنسان في تفسير ذاته.”
3-الحيرة والزمن:
يتضح تأثير الحيرة على تصور الشاعر للزمن في القصيدة. حيث يقول “حينَ زحفَ الربيعُ/ تمايلتْ أغصاني”. هذه العبارة تشير إلى تأثير الزمن على الشاعر، حيث يجد نفسه تائهاً في الزمن الذي يمر بسرعة. نجد أن الزمن يؤثر على الشاعر بشكل كبير، مما يجعل البحث عن الزمن الماضي أو الحاضر أو المستقبل جزءاً من الحيرة. في هذه الحالة، تظهر الحيرة كوسيلة للبحث عن الوقت المثالي للشاعر، وهو ما ينبه إليه الفيلسوف الفينومينولوجي إدموند هوسرل بقوله: “الزمن هو المكان الذي تعيش فيه الحيرة.”
4-الحيرة والمحبة:
تظهر المحبة كعنصر أساسي في القصيدة، حيث يجد الشاعر نفسه يبحث عن المحبوبة في وسط الحيرة. في قول الشاعر “وضعتُ يدي في النهرِ/ أحاولُ شرحَ سكوتي”، نجد أن الشاعر يبحث عن المحبة، ولكنه يجد نفسه في حالة من الحيرة. هذه الحالة من الحيرة والمحبة تعكس الصراع الداخلي الذي يعيشه الشاعر، وهو ما يؤكد أن الحيرة هي جزء لا يتجزأ من البحث عن المحبة. كما يقول الناقد الأدبي محمد الدالي: “الحب دائمًا يحمل في طياته حيرة وجودية، وبواسطته نكتشف عمق البحث عن الذات”.
5-الحيرة والبحث عن المعنى:
تتجلى الحيرة كبحثٍ عن المعنى في القصيدة حيث يقول الشاعر “من أينَ تأتي بالدهشةِ وكلُّ الحكايات انطفأت تحتَ رمادِ الغربةِ؟”. هذه العبارة تشير إلى أن الشاعر يبحث عن المعنى في وسط الحيرة والغربة. نجد أن الحيرة تعكس بحث الشاعر عن المعنى الحقيقي للوجود، وهو ما يؤكد أن الحيرة هي بداية البحث، وليست نهاية. الفيلسوف الوجودي ألبير كامو يتحدث عن الحيرة في البحث عن المعنى بقوله: “إن الحقيقة لا توجد، ولكن الحيرة تعطي للحياة معاني متجددة”.
6-الحيرة والأسلوب:
يعكس أسلوب الشاعر في القصيدة حالة الحيرة التي يعيشها فاستخدامه للاستعارات والتشبيهات يظهر تأثير الحيرة على أسلوبه الشعري في قول الشاعر “لا غرضَ لي مع الشعرِ، سوى الاحتراق على جسدِ القصيدة التي تنمو بين يديكِ”، نجد أن الشاعر يبحث عن أسلوب يعبّر عن حالته النفسية. هذه الحالة من الحيرة والأسلوب تعكس الصراع الداخلي الذي يعيشه الشاعر، وهو ما يؤكد أن الحيرة هي جزء لا يتجزأ من البحث عن أسلوب شعري يعبر عن المعاني الحقيقية. يقول الناقد الأدبي عيسى الناصر: “الحيرة تعكس بوضوح في الأسلوب، وتظهر عمق التأمل والتفكر في النص الشعري”
7-الأسلوب والبعد الوجودي:
تتجلى الوجودية في شعر حسين السياب من خلال أسلوبه الفريد الذي يضع الحيرة في قلب التجربة الإنسانية. فالتحولات الشعورية في القصيدة، مثل القلق والضياع والبحث عن المعنى، تجسد تجارب وجودية عميقة تعكس صراع النفس مع كينونتها ومع واقعها. فأسلوب السياب يمزج بين الفلسفة والشعر، كما يشير إلى ذلك الناقد الأدبي يوسف إدريس: “يتميز شعر السياب بأنه يتجاوز حدود الفكرة ليعكس صراعًا وجوديًا بين الشخص وفهمه للعالم”. من خلال استخدام الصور الشعرية الغنية والاستعارات الجريئة، يتيح الشاعر للقارئ الانغماس في تجربته الوجودية. إن الأسلوب يعكس المرونة والعمق، مما يجعل القارئ يعيش اللحظة الشعورية كما لو كانت تجربة شخصية خاصة به، وهذا ما يجعل النصوص الشعرية فعالة في قذف الأسئلة الوجودية على قارئها.
البعد النفسي للحيرة
تتداخل الحيرة في “بودكاست عن وجه الغربة” مع أبعاد نفسية عميقة تُظهر القلق والتوتر الذي يعيشه الشاعر. حيث تظهر الحيرة وكأنها تعكس تجربة داخلية معقدة عن الإحساس بالانفصال والغربة، وهي مشاعر تتجلى في صور الشك والقلق والحنين. يقول الناقد النفسي جيمس هوليس: “الحيرة ليست مجرد حالة من عدم اليقين، بل هي مؤشر صنوف الخوف والقلق التي تتعلق بشعور الإنسان بفقدان المعنى”. من خلال هذه العدسة، نتبين أن السياب ليس فقط يعبر عن حيرة الوجود، بل يتناول أيضًا الصراع النفسي الذي يعيشه الأفراد في محاولتهم لفهم ذواتهم ومكانتهم في هذا العالم. تجسدت هذه الصراعات النفسية مع رموز وعدم الاستقرار، مما يجعل النص الشعري فضاءً للتعبير والتحرير عن المشاعر العميقة اللازمة للفهم والتحليل.
أخيرا تظهر القصيدة “بودكاست عن وجه الغربة” لحسين السياب كأحد أبرز الأمثلة على تأثير الحيرة في الشعر. من خلال دراسة الحيرة كأصل للبحث، والهوية، والزمن، والمحبة، والبحث عن المعنى، والأسلوب، نجد أن الحيرة تعتبر عنصرًا أساسيًا في بناء القصيدة. هذه الحيرة تعكس صراعًا داخليًا يعيشه الشاعر، وهو ما يؤكد أن الحيرة هي بداية البحث، وليست نهاية. الشعر يعكس حالة من الحيرة التي تعتبر السبيل الوحيد لحماية التفكير من الوقوع في الفخاخ المنحوتة من قبل الحقيقة. ومن خلال هذه القراءة، نجد أن الحيرة هي جزء لا يتجزأ من البحث عن المعنى الحقيقي للوجود.
المصادر:
1. السياب، حسين. “ديوان شعر حسين السياب”، دار الشؤون الثقافية العامة.
2. الجبوري، حمد. “الشعر العراقي الحديث: دراسة في التجارب الشعرية”، دار الفارس.
3. الشمري، نغم. “الوجودية في شعر السياب”، مجلة الأدب المعاصر.
4. كانط، إيمانويل. “نقد العقل الخالص”.
5. هايدغر، مارتن. “الوجود والزمان”.
6. كامو، ألبير. “أسطورة سيزيف”.
7. الدالي، محمد. “تحليل الخطاب الشعري”.
8. الناصر، عيسى. “أسلوبية الشعر العربي الحديث”.
9. إدريس، يوسف. “شعر السياب: فلسفة الوجود وتأملات النفس”.
10. هوليس، جيمس. “الصراع النفسي ومعنى الحيرة”.