“الهوية والوجود في الشعر الحديث ” قراءة فنية لقصيدة “درب الحياة” ل د.زينب علي درويش”


د.آمال بو حرب _تونس
في الأدب الحديثة، تُعتبر الهوية واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا وإثارة للجدل. الهوية ليست مجرد مفهوم ثابت أو مُعطى، بل هي عملية ديناميكية تتشكل من خلال التفاعل بين الذات والعالم. في الشعر الحديث، نجد أن الشعراء يعبرون عن هوياتهم من خلال تجاربهم الشخصية، وصراعاتهم الوجودية أما الفلسفة الحديثة، تطرح قضية الهوية نفسها كسؤال مركزي. من ديكارت الذي أكد على “أنا أفكر، إذن أنا موجود”، إلى هيجل الذي رأى الهوية كعملية جدلية بين الذات والآخر، وصولًا إلى “جان بول سارتر”الذي أكد على أن الوجود يسبق الماهية، بمعنى أن الهوية تُفهم كشيء يتم بناؤه من خلال الاختيارات والأفعال أما الفلسفة الوجودية، على وجه الخصوص، ترى الهوية كشيء غير ثابت، بل كعملية مستمرة من التكوين وإعادة التكوين.
في الشعر الحديث، نجد أن الهوية تُعبر عن نفسها من خلال اللغة والرمز والصورة الشعراء يستخدمون الكلمات لخلق عالم داخلي يعكس هوياتهم المتعددة والمتغيرة. الهوية في الشعر ليست مجرد انعكاس للواقع، بل هي أيضًا محاولة لخلق واقع جديد، حيث يصبح الشعر وسيلة لاستكشاف الذات وبوصفه فنًا يعتمد على اللغة والتعبير المجازي، يقدم لنا طريقة فريدة لفهم الهوية ومن خلال قصيدة درب الحياة” للدكتورة زينب علي درويش سنحاول اكتشاف مدى عمق التجربة الوجودية في البحث عن الهوية وتحقيق الامنيات
المرآة والهوية:
تبدأ القصيدة بتأمل الشاعرة لذاتها في المرآة، حيث تقول: *”لعلّي في مرآتي أرى نفسي جليّة / عابرًا بين الحقيقةِ والأمنية”*. هذا التأمل يعكس صراعًا وجوديًا بين الحقيقة (الواقع) والأمنية (المثالية)، وهو صراع مركزي في الفلسفة الإنسانية المرآة هنا ليست مجرد انعكاس مادي، بل هي رمز للوعي الذاتي والبحث عن الهوية. هذا الموقف يُذكرنا بفلسفة **فريدريك نيتشه** في كتابه “هكذا تكلم زرادشت”، حيث يتحدث عن الإنسان كجسر بين الحيوان والإنسان الأعلى (السوبرمان)، وهو في حالة دائمة من التجاوز والبحث عن الذات. الشاعرة تعبر عن هذا التجاوز من خلال رؤيتها لنفسها “جليّة”، وكأنها تحاول فهم جوهرها الحقيقي وسط تيارات الواقع والأحلام.
البعد الوجودي تجسد قصيدة “درب الحياة” للدكتورة زينب علي درويش تجربة وجودية عميقة تتمحور حول البحث عن الذات، وتأكيد الهوية الفردية، وإيجاد المعنى وسط تحديات الحياة. في الفكر الوجودي، يرى جان بول سارتر أن “الإنسان محكوم عليه بالحرية”، أي أن وجوده يسبق ماهيته، وهو وحده المسؤول عن تشكيل ذاته من خلال أفعاله واختياراته. هذا المفهوم يتجلى في القصيدة من خلال تأكيد الشاعرة على الإرادة الحرة والسعي الدائم لتحقيق الذات رغم العقبات. تقول الشاعرة:
“أسيرُ في درب الحياة بثبات / لا أنحني لرياحٍ عاتية”
هذه الأبيات تعكس جوهر الفلسفة الوجودية، حيث يكون الإنسان هو من يحدد مصيره، ولا يسمح للعوامل الخارجية أن تملي عليه طريقه. كما يتجلى البعد الوجودي في موقف الشاعرة من الألم والمعاناة، حيث تحولهما إلى قوة داخلية تعزز هويتها، تمامًا كما يرى ألبير كامو في أسطورة سيزيف، حيث يؤكد أن الإنسان، رغم عبثية الحياة، قادر على أن يخلق معنى خاصًا به من خلال المقاومة والتحدي. حين تقول الشاعرة:
“أزرعُ الأمل في أرضٍ جرداء / وأبني من الأحلام قلاعًا نقيّة”
تعكس الشاعرة موقف الإنسان الذي يواجه العدم بالأمل، ويخلق معنى في عالم يفتقد إلى اليقين، وهو ما يتماشى مع رؤية مارتن هايدغر الذي يرى أن الوجود الإنساني هو رحلة بحث دائمة عن الحقيقة وسط ضياع العالم الحديث. في النهاية، تقدم الشاعرة صورة الإنسان الوجودي الذي يترك أثره في الحياة، تمامًا كما يقول نيتشه: “على الإنسان أن يكون هو الجسر، لا الهدف”، أي أن الوجود الحقيقي يكمن في عملية التشكّل المستمر والسعي نحو تجاوز الذات، وهو ما تعكسه القصيدة من خلال إصرارها على مواجهة الحياة بإرادة لا تنحني.
البعد الإجتماعي :تعكس قصيدة “درب الحياة” للدكتورة زينب علي درويش بُعدًا اجتماعيًا مهمًا يتمثل في صراع الفرد مع المجتمع، ومسؤوليته في التأثير فيه، ومحاولته تحقيق ذاته رغم القيود والعوائق الاجتماعية. الإنسان في جوهره كائن اجتماعي، ولكنه في الوقت نفسه يسعى للحفاظ على فرديته، وهو ما يتجلى في الأبيات التي تعبر عن الثبات في مواجهة التيارات المجتمعية:
“أسيرُ في درب الحياة بثبات / لا أنحني لرياحٍ عاتية”
صورة شعرية تعكس موقف الإنسان الذي يرفض الخضوع للضغوط المجتمعية، وهو ما يتوافق مع رؤية إيميل دوركهايم الذي يرى أن المجتمع يفرض على الأفراد قواعد وتقاليد، لكن تحقيق الذات يتطلب تجاوز هذه القيود دون أن يفقد الإنسان صلته بجذوره. كذلك، يمكن ربط هذه الأبيات بمفهوم الإنسان ذو البعد المزدوج عند إريك فروم، حيث يرى أن الإنسان يعيش بين حاجته للانتماء إلى المجتمع وحاجته للحفاظ على فرديته. الشاعرة، من خلال تأكيدها على السير بثبات رغم العواصف، تعبر عن هذا التوازن الدقيق بين الاندماج في المجتمع والحفاظ على الهوية الشخصية.
كما يتجلى البعد الاجتماعي أيضًا في دور الإنسان في إحداث التغيير وبث الأمل في الآخرين، وهو ما تعكسه الأبيات التالية “أنا النورُ حينَ يحلُ الظلام / والصوتُ حينَ تخفتُ الأصداءُ الأبية”رؤية تتقاطع مع أفكار أنطونيو غرامشي حول المثقف العضوي، حيث يؤكد أن دور الفرد الواعي لا يقتصر على التفاعل مع مجتمعه، بل يمتد ليصبح قوة دافعة للتغيير والإصلاح. فالشاعرة، من خلال تشبيه نفسها بالنور والصوت، تبرز أهمية الدور الاجتماعي للفرد في نشر الوعي والإلهام، وهو ما يعكس مسؤولية الإنسان تجاه مجتمعه، ليس كمتلقٍ فقط، بل كمصدر للإلهام والمقاومة. بهذه الطريقة، تقدم القصيدة رؤية عميقة للبعد الاجتماعي، حيث تضع الإنسان في قلب التفاعل بين الذات والمجتمع، بين التحديات والإرادة، وبين الامتثال والتغيير.
البعد النفسي في القصيدة
“تقول الشاعرة “أحملُ بين ضلوعي قلبًا شجاعًا / وقصةً خطّتْها الأيامُ القاسية” النظرة الخاطفة لهذا البيت يعكس وصفا للحياة ولكن تعكس تجربة الإنسان في مواجهة الألم النفسي وتحويله إلى دافع للنمو، وهو ما يتوافق مع رؤية فيكتور فرانكل في كتابه “الإنسان يبحث عن المعنى”، حيث يرى أن المعاناة يمكن أن تكون مصدر قوة إذا استطاع الإنسان أن يجد لها معنى. الشاعرة هنا لا تروي فقط قصة الألم، بل تؤكد على دور الإرادة في تجاوز المحن، مما يعكس عملية التكيف النفسي الإيجابي أو ما يُعرف في علم النفس بالمرونة وهي القدرة على الصمود أمام الأزمات وتحويلها إلى فرص للنمو ، ويظهر البعد النفسي في العلاقة بين الأمل كآلية دفاعية ضد الانهيار النفسي، كما في قولها “أزرعُ الأمل في أرضٍ جرداء / وأبني من الأحلام قلاعًا نقيّة”
ولقد طرحت هذه القضية مفهوم التوقع الإيجابي عند مارتن سليجمان، مؤسس علم النفس الإيجابي، حيث يرى أن الإنسان قادر على تعزيز حالته النفسية من خلال برمجة عقله على التفكير المتفائل، مما يجعله أكثر قدرة على التكيف مع التحديات. فالشاعرة، من خلال استعارة الأمل كزرع في أرض جرداء، تؤكد أن الإنسان قادر على خلق معنى حتى في أكثر اللحظات إحباطًا، وهو ما يتقاطع أيضًا مع رؤية ألبير كامو حول التمرد ضد العبث، حيث يصبح الأمل فعلًا وجوديًا في مواجهة اللاجدوى.
الإنسان بين الخلود والإبداع :
تتحدث الشاعرة عن الخلود من خلال الإبداع، وهو مفهوم يُذكرنا بفلسفة “أرسطو”في “فن الشعر”، حيث يؤكد أن الفن هو وسيلة لتحقيق الخلود. الكتابة بحروف من ذهب تعكس الرغبة في ترك أثر دائم، وهو ما يعكس سعي الإنسان نحو الخلود الرمزي. الشاعرة تعلن أن الإبداع هو طريقها لترك بصمة أبدية وكأنه الخلود من خلال الإبداع تقول الشاعرة أكتبُ نفسي بحروفٍ من ذهب / وفي كلّ سطرٍ أترك بصمتي الأبديّة”لعلها تقدم لنا درسًا في أن الإنسان يمكن أن يعيش إلى الأبد من خلال ما يخلقه من أفكار وأعمال.
وأخيرا يجوز القول أن قصيدة “درب الحياة” للدكتورة زينب علي درويش هي نص فلسفي عميق يعكس رحلة الإنسان في البحث عن الذات، ومواجهة قسوة الحياة، وخلق المعنى من خلال الأمل والإبداع. الشاعرة تستخدم صورًا شعرية قوية لتعبر عن مفاهيم فلسفية مثل الوعي الذاتي، والإرادة، والثبات، والأمل، ودور الإنسان في العالم. القصيدة تقدم لنا رؤية إنسانية متفائلة، حيث يكون الإنسان قادرًا على تحويل معاناته إلى قوة، وأحلامه إلى واقع، وأفكاره إلى إرث أبدي ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هل يمكن للشعر أن يكون وسيلة لفهم الهوية في عالم يتسم بالتغير المستمر والتناقضات؟
1 جان بول سارتر “الوجودية مذهب إنساني”
2 فريدريك نيتشه “هكذا تكلم زرادشت”
3 ألبير كامو “أسطورة سيزيف”
4 مارتن هايدغر “الوجود والزمان”
5 إيميل دوركهايم “قواعد المنهج في علم الاجتماع”
6 إريك فروم “الهروب من الحرية”
7 فيكتور فرانكل “الإنسان يبحث عن المعنى”
8 مارتن سليجمان “علم النفس الإيجابي”
9 أرسطو “فن الشعر