مذكرات الولد الشقي..الحلقةالرابعة


فايل المطاعنى
يوميات العيد السعيد
العيد في طفولتنا لم يكن مجرد أيام من البهجة والهدايا، بل كان طقوساً خاصة، وحكايات تروى، ومشاعر لا تُنسى. كانت أيام العيد تنسج تفاصيلها من وجوه الأحبة، وضحكات الإخوة، ورحلات لا تشبه غيرها. في هذه المذكرات، أعود بكم إلى زمنٍ كانت فيه البساطة سيّدة الموقف، والمقالب الطفولية جزءاً من طقوس الفرح.
ما زلنا في يوميات العيد السعيد، حيث الذكريات تنبض بالحياة، وتفاصيلها تُحفر في الذاكرة كما لو أنها حدثت البارحة.
من عادات والدي — رحمه الله — أن يقضي عيد الأضحى المبارك في شرقية عمان، وتحديدًا في ولاية جعلان. كان يعتبر العيد هناك طعمه مختلف، وبهجته أصفى، خاصة عندما يتزامن العيد مع نهاية السنة الدراسية، فتكون الفرحة مضاعفة.
والدي كان كريمًا للغاية، يحب أن يصطحب معه في رحلات العيد الهدايا والاحتياجات الخاصة بأقاربه، خصوصًا لأخته الوحيدة التي كانت تسكن جعلان بني بوحسن — رحمها الله، فقد رحلت منذ زمن، لكن ذكراها باقية في قلوبنا.
قبل السفر بعدة أيام، تبدأ الاستعدادات الجادة: نشتري ملابس العيد، والحلويات، والفواكه، وكل ما يلزم من لوازم “العيد السعيد”. كان والدي قد اشترى مؤخرًا سيارة جديدة من نوع لاندكروزر بصندوق خلفي مكشوف. كنا نلقبها “أبو شنب” لأن مقدمتها تحتوي على حديدة تشبه شنب “أبو عاصم” في مسلسل باب الحارة. الجيل الجديد صار يسميها “شاص”، والحقيقة لا أعرف أصل هذه التسمية، لكنها منتشرة!
وبما أننا نعشق التسلية، كنا نُطلق أسماء مشاهير على السيارات: “ليلى علوي” كانت لقب اللاندكروزر، و”فريد شوقي” للـ GMC، و”محمد عبده” و”طلال مداح” لبقية المركبات… كانت لعبة ممتعة لها نكهة طفولية خاصة.
كنا نتسوق الفواكه من محلات مشهورة، بعضها في منطقة المضيف بالإمارات، وأخرى في منطقة حماسة في عمان، حيث كانت الأكشاك مليئة بكل ما لذ وطاب. أما اليوم، فكل تلك المحلات أُزيلت، وأصبحت المنطقة حدودًا فاصلة بين الدولتين.
ليلة السفر لا نوم فيها، نَسهر متحمسين، والدي يصر على حضور “هبطة جعلان” — سوق العيد الشعبي — رغم أنه اشترى كل شيء! لكنه كان يعتبرها طقسًا لا يمكن تفويته. والغريب أنني ورثت ذلك الحب، فلا يمكن أن أكون في الشرقية دون زيارة “الهبطة”.
عشية السفر يبدأ التجهيز الجاد. أنا وأخواي، جاسم وثاني، كنا مسؤولين عن حماية الفواكه من التلف، وكذلك حماية الأضحية نفسها من أن تعبث بالفاكهة — خصوصًا الموز والعنب والتفاح المختار بعناية لتوزيعه على الأقارب.
جلسنا نحن الثلاثة في الصندوق الخلفي للسيارة، بجانب الأغراض والأضحية، بينما والدي والسائق في الأمام، ووالدتي وبقية العائلة في سيارة أخرى أنيقة ومكيّفة.
وبعد صلاة الفجر، إنطلقت القافلة نحو المنطقة الشرقية. ونحن في الصندوق، خطرت لنا فكرة “عبقرية”: ماذا لو رمينا قشور الموز على الطريق لنرى هل تتزحلق السيارات مثل أفلام الكرتون؟!
الفكرة راقت لإخوتي، وبدأنا في تنفيذ “الخطة الشريرة”! كل لحظة نقشر موزة ونرمي قشرتها على الطريق… لكن للأسف، لم تتزحلق أي سيارة!
مع مرور الوقت، لاحظنا أن كميات الموز بدأت تنقص بشكل ملحوظ. ومع اقترابنا من جعلان، دبّ فينا الخوف: ماذا سنقول لوالدنا عندما يكتشف أن نصف الموز قد اختفى؟!
هنا ظهرت براعتنا في اختراع الأعذار، فاتفقنا أن نقول إن “الأضحية” أكلت الموز بينما كنا نيام في الصندوق!
وفعلاً… نَجَونا من العقاب، بينما دخلت الأضحية بطوننا في أول أيام العيد السعيد، وسط ضحكات خفية وذكريات لا تُنسى.
تمر السنوات وتغيب الوجوه وتختلف العادات، لكن ذكريات الطفولة تبقى خالدة، تُضيء القلب كلما عبرها الحنين. تلك الرحلات، الضحكات، والخطط الطفولية البريئة، هي ما يصنع نكهة الحياة. ولعلّي أكتب اليوم، لا لأسترجع الماضي فقط، بل لأُحيي روح أبي الطيبة، التي ما زالت تحيط بي، وترافقني في كل عيد، وفي كل لحظة فرح.