جزيرة اللاعودة


تقرير: الكاتبة لمياء النفيعى
من منبع رائحة الدم، والموت، وآهات الألم، ومشاعر القهر، وبشاعة الظلم، ومرارة الاضطهاد والاستعباد والعنصرية، وقص أجنحة الحرية، وجرح غائر اندمل بعد حقبة زمنية طويلة، وبصمة عار في جبين الإنسانية، نأخذك أيها القارئ جولة لجزيرة في وسط المحيط الأطلسي عبر العبَّارة التي تبعدُ عن داكار عاصمة السنغال حوالي 35 دقيقة، تلك الجزيرة الحالمة تُدعى “غوري” أو “جزيرة العبودية” التي تعرضت للاحتلال من قِبل أربع دول ” البرتغال، هولندا، فرنسا، انكلترا” خلال منتصف القرن الخامس عشر ولغاية القرن التاسع عشر، عُرفت بأنها بوابة الجحيم والمأساة، وشهدت أبشع أنواع استغلال الإنسان، وهدر كرامته، وانتهاك حقوقه الإنسانية، وظلت لقرون عديدة أكبر مركز لتجارة الرقيق، ونقطة تجمع من القارة الأفريقية نقلوا عِبَّرها ما يتراوح ما بين 15 مليون إلى 60 مليون إنسان إلى أوروبا والقارة الأمريكية بشحنهم في سفن البضائع لتوزيعهم هناك، وتسخيرهم للعمل تحت إمرتهم بدون أي معيار أخلاقي، بالإضافة إلى ملايين آخرين ماتوا في السفن، واختيرت “غوري ” لطبيعة لموقعها الاستراتيجي وبعدها عن اليابسة لقطع الطريق عليهم ومنعهم من الهرب، والملفت للنظر تنوع بيوت الجزيرة بين منازل صغيرة مُشيدة على غرار الطابع الاستعماري الخاص بتجار الرقيق المتميزة بألوانها على حسب الدولة التي احتلتها، والبيوت الصغيرة الفقيرة المظلمة التي تعود إلى الرقيق أنفسهم.
بدأت تلك المأساة عن طريق صيدهم من دول أفريقية مختلفة، وجلبهم إلى هذه الجزيرة عنوة واعتقالهم فيها حتى وقت ترحليهم، حيث كانوا يضعونهم في بيت يتكون من طابقين مبنى على الطراز الاوروبي، خُصص الطابق الأول مكاتب واستراحات للتجار وقاعات لعقد صفقات البيع، حيث كانوا يزايدون على الرقيق من الشرفة العلوية ويتم وزنهم وإذا نقص وزنه عن 60 كيلو غرام يُفرض على البائع تسمينه حتى يكون صالحًا للبيع، وأما الطابق السفلي عبارة عن معتقل لاحتجازهم في سجون ضيقة، وتكديسهم كبضاعة، وينقسم هذا البيت إلى مجموعة من الغرف، مقسمة على حسب الجنس والعمر فالرجال، والفتيات، والنساء، والاطفال كل مجموعة منهم في غرف ضيقة جدا، عددهم قد يصل إلى 40 شخص ينامون مقرفصين على الأرض دون أن تُنزع منهم السلاسل سواء كانت في أعناقهم أو المقيدة في أرجلهم ، ولا يخرجون لقضاء حاجتهم إلا مرة واحدة، ووجبة واحدة في اليوم ، والعُصاة منهم أو بالأحرى المتمردين مُكدسين فوق بعض في سجون مظلمة لا نوافذ لها مساحتها متر ويتطلب دخولها حبوا ويخضعون لأصناف من التعذيب، والمرضى منهم فالبحر مثواهم، قُيدت أقدامهم بكرة معدنية، حتى لا يعودوا مرة أخرى وينقلوا العدوى إلى الآخرين، وكانت عملية بيعهم أو مقايضتهم عبر البضائع المختلفة ثم ترحليهم من “بوابة النهاية” الذي يقع في آخر البيت ممر سفلي مطل على المحيطي الأطلسي أو “باب اللاعودة” الذين يمرون منه ولا يعودون عبر السفن متفرقين فالزوجة بعيدة عن زوجها، والأم متفرقة عن طفلها، والاب عن أبنائه، يذرفون الدموع ، ويشهقون من البكاء، في رحلة مجهوله لا يعلمون عن خفاياها، وأن كان البعض منهم يرمى نفسه في البحر ليغرق أو تلتهمه أسماك القرش.
تلك الجزيرة كانت شاهدة على مآسي الكثير مما عانوا من الرق ، ومجسدة تاريخها في مبانيها، ورسومها المعبرة، و منحوتاتها التي تعبر عن آلامهم، وتطلعهم للحرية، وبصمات المستعمرين التي مازالت آثارها موجودة في ألوان المباني الزاهية، حينما تقبل على ذلك البيت، تشعر ببرودة تسري في جسدك داخل الغرف الضيقة المظلمة المليئة بالحرارة والرطوبة التي شهدت جدرانها آهاتهم، وعند وقوفك على بوابة اللاعودة تشعر بصراخ الأطفال المفزعة، ونحيب النساء المؤلمة، وبكاء الفتيات المؤلمة، وحشرجة أرواح من يرفض الرضوخ والصعود لتلك السفن، والمطالبة بحريتهم، في حين يستمتع السادة بالطبيعة الحالمة من شرفات الطابق العلوي للبيت .
رغم صغر مساحة الجزيرة وتاريخها المُبكي إلا أنها صُنفت من قبل اليونسكو كموقع للتراث العالمي، وتعتبر مزار سياحي عالمي، يزور الجزيرة ما يقارب 1000 سائح يوميًا. لأنها تضم مجموعة من المباني التي يعود تاريخها إلى الحقبة الاستعمارية حيث تجمع ثقافة تلك الدول المستعمرة من حيث الهندسة المعمارية والفن التشكيلي وكما احتفظت الشوارع بأسمائها الأولى، وأشجارها الضخمة “الباوباب” يستخرج منها الأهالي مشروبًا محليًا يعتزون به ويقدمونه لضيوفهم، وخرجت من رحم معاناتها أربعة روؤساء من دول أفريقية مختلفة، وتستمع لقصص لمن خرجوا في رحلتهم الأبدية، التي باتت راسخة في ذاكرة سكانها وانتقلت إليهم عبر الأجيال، تلك الجزيرة ظلت أربع قرون شاهدة على ترحيل الآلاف من الأفارقة في ظروف مروعة، وتاريخ مظلم للاستغلال البشري.