الأدب والشعر

وَصِيَّة جَدَّتِي

 الشاعر: سامى رضوان عبد الوهاب

الشاعر: سامى رضوان عبد الوهاب

 

( تَحْتَ عُنْوَانِ فِلَسْطِينَ أَرْضٌ وَقَضِيَّةٍ )

اَلْأَرْضَ هِيَ أَرْضُ اَللِّقَاءِ اَلْأَخِيرِ اَلْقَضِيَّةِ هِيَ قَضِيَّةُ اَلسَّاعَةِ ثَمَّةَ اِرْتِبَاطٌ عَمِيقٌ بَيْنَ اَلطِّينِ وَالْجُذُورِ رَائِحَةَ اَلْأَوْطَانِ تَرَجَّلَتْ زِحَامَ اَلْأَنْفَاسِ بَيْنَ شَمْسِ صَبَاحَ مُشْرِقٍ وَتَرَاتِيلِ اَلْغُرُوبِ حِينَ اَلْغَسَقِ حَيْثُ عَسْعَسَ اَللَّيْلُ بِعَزْفِهِ اَلْمُنْفَرِدِ اَلْفَرَاشَاتِ تُحَلِّقُ فِي اَلسَّمَاءِ بِلَا أَجْنِحَةٍ لَا أَدْرِي سِوَى سُقُوطِ هَذَا اَللَّيْلِ اَلْعَقِيمِ اَلْمُسْتَمِيتِ شِرْيَانُ أَحْلَامِ اَلْهِجْرَةِ وَضَيَاعِ اَلْأَوْطَانِ مَعَالِمَ اَلْجِبَالِ وَخُطُوطِ اَلْجَدَاوِلِ أَطْرَافَ اَلْمَدِينَةِ بَيْنَ اَلْخُطُوطِ اَلْعَرِيضَةِ اَلسَّاحِلَ وَأَدَّى كَرُّ كُرْهٍ كَأَنَّ خُيُوطَ اَلشَّمْسِ لَمْ تَزَلْ صُورَةٌ قَابِعَةٌ فِي أَعْمَاقِ اَلذَّاكِرَةِ مُنْذُ اَلطُّفُولَةِ أَخْبَرَتْنِي جَدَّتِي حَيْثُ قَضَى قِطَارُ اَلْجَارِ لِلْجَارِ ثُمَّ إِدْرَاكٍ عَمِيقٍ بَيْنَ اَلسَّمَاءِ وَالطُّيُورِ حَيْثُ لَا مَفْهُوم لِلْكَرَاهِيَةِ وَالْحِقْدِ بَيْنَ بُنِيَ جِلْدَتِي إِنَّهَا اَلصُّورَةُ اَلَّتِي مَا زَالَتْ عَالِقَةً بِدَاخِلِي مُنْذُ عَامٍ ( 1948 ) حَيْثُ أَحْدَاثُ اَلْوَاقِعِ اَلْمَرِيرِ اَلَّذِي عَلَى أَثَرِهِ قَسَّمَتْ اَلْأَرْضُ ( عُقُودٌ بِلَا عُرْفٍ وَلَا ذِمَم ) أَنَّهُمْ جَاءُوا لِسَرِقَةِ اَلْأَرْضِ وَالتَّارِيخِ مَعًا أَنَّ ضَحَالَةَ اَلْمُعَانَاةِ لَيْسَتْ لَهَا حُدُودُ وَهُمْ يَمُرُّونَ بِشَرِيطِ اَلذَّاكِرَةِ أَرَاهُمْ كَأَنِّي لَا أَرَاهُمْ عَابِرُونَ بِلَا أَوْرَاقٍ وَلَا بَيَان يُقِرُّ أَنَّهُمْ مِنْ هَذَا اَلْعَالَمِ تَبْدُو اَلْقَضِيَّةُ مُفْعَمَةً بِمَا تَحْمِلُ مِنْ جِينَاتٍ وِرَاثِيَّةٍ لِقَانُونِ طُرُزِ بِخُيُوطِ اَلْعَنْكَبُوتِ لَمْ أَرَى سِوَى اَلْوَهْمِ مَا بَيْنَ اَلْعَقْدِ نَعِمَ إِنَّهَا قِصَّةُ هَذَا اَلْعَالَمِ اَلْعَرَبِيِّ تَكْمُنُ فِي دَاخِلِيٍّ كَانَ صُورَةً مِنْ اَلْوَاقِعِ تُلْصِقُ بِجَسَدِ اَلْفِكْرِ يَا أَيُّهَا اَلْعَالَمُ اَلْعَرَبِيُّ لَقَدْ أَخْبَرَتْنِي جَدَّتِي حِينَ كَانَتْ تَحْمِلُ مِفْتَاحَ اَلْعَوْدَةِ بَيْنَ أَصَابِعِهَا وَأَنَا اِنْهَضْ إِلَى اَلسَّمَاءِ تُحَمِّلُنِي اَلرِّيَاحُ حَتَّى تَمَسُّكِ يَدِي اَلْمِفْتَاحَ عَيْنِي تَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ جَدَّتِي بِكُلِّ بَرَاءَةٍ وَلَقَدْ رَأَيْتُ حَفْرِيَّاتُ اَلدُّمُوعِ تَشُقُّ اِنْهَارَ بِهَذَا اَلْوَجْهِ اَلَّذِي نَحَتَتْهُ اَلرِّيَاحُ مُعَانَاةً وَأَلَم شَدِيدٍ كَتَبَتْهُ اَلْأَقلَامُ هُوَ سُطُورُ بَيْنَ طَيَّاتِ اَلصُّحُفِ وَمَا بَيْن شَتَّانَ ( اَلْغُرْبَةُ وَالرَّحِيلُ ) تَنَادَى جَدَّتِي بِصَوْتٍ قَطَعَتْ حِبَالَهُ خَنَاجِرَ اَلصَّمْتِ فِي أَعْمَاقِهَا يَا وَلَدَى عَلَيْكَ أَنْ تَحْمِلَ هَذَا اَلْمِفْتَاحِ وَأَعْلَمَ أَنَّ لَكَ دِيَارْ عَلَى هَذِهِ اَلْأَرْضِ اَلَّتِي غرْسُنَا بِهَا بُذُورَ أَحْلَامِنَا سَفِينَاهَا مِنْ دِمَاءِ اَلشُّهَدَاءِ مَا يَكْفِي لَكِنَّنَا بَذَلْنَا كُلُّ هَذِهِ اَلدِّمَاءِ مِنْ أَجْلِ اَلسَّلَامِ أَعْلَمَ يَا وَلَدِي أَنَّ اَلْمُحْتَلَّ جَاءَ كَيْ يَسْتَظِلَّ تَحْتَ مِظَلَّةٍ كَاذِبَةٍ ( لَا أَرْضُ لَهُ وَلَا وَطَن ) ( يَعْلَمَ سُلَيْمَانْ وَالْجِنَّ اَلَّذِي سَخِرَ لَهُ أَنَّهَا عَرَبِيَّةٌ ) أَرْضٌ وَشَعْبُ وَوَطَنُ سَمَاءِ وَأَنْجُمِ رِمَالِ وَصَخْرِ بَحَّارِ وَأَنْهَارِ أَمْطَارٍ وَسَحْبٍ . . . ! حَمَّلَتْ اَلْمِفْتَاحَ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ يَدِهَا وَيَدِي تَرْتَعِشُ حَيْثُ اَلطُّفُولَةُ فِي عَيْنِي هَارِبَةً تَبْدُو مَخَاوِفَ اَلْقَدَرِ فِي نَفْسِيٍّ عَمِيقَةٍ . . . ؟ لَا أَدْرَى مَا حَجْمُ مُعَانَاةِ اَلسَّلَفِ فِي غُبَارِ اَلْأَزْمِنَةِ اَلْمَاضِيَةِ مَاتَتْ جَدَّتِي وَهِيَ تَتْرُكُ وَصِيَّةَ اَلْأَرْضِ وَالْقَضِيَّةِ . . . ! تَوَقَّفَتْ اَلْأَصَابِعُ عَنْ اَلتَّحَرُّكِ يَبْدُو أَنَّهُ اَلْقَيْدُ اَلْأَخِيرُ سَجْرَتْ اَلرَّفَاهُ أَيْقَنْتُ مُنْذُ هَذِهِ اَللَّحْظَةِ أَنَّ بِدَايَةَ اَلتَّحَرُّرِ بَيْنَ أَصَابِعِ جَدَّتِي إِرَادَةً إِلَى فَجَاءَ مُوَاطِنِي جَاءَ اَلْجَمْعُ لِتَكْرِيمِ اَلرَّفَاهِ تَحْتَ اَلثَّرَى وَأَنَا أَصْرُخُ جَدَّتِي . . . جَدَّتِي . . . اِنْدَفَعَ نَحْوُ بَابِ غُرْفَتِهَا حَتَّى أُشَاهِدَ غَسْلُهَا يَمْنَعُنِي اَلْكَثِيرُ مِنْ حَوْلِي وَبُعْدُ مُحَاوَلَاتٍ مُسْتَمِيتَةٍ سَمَحُوا لِي بِالدُّخُولِ إِلَيْهَا بَعْدَمَا أَخْبَرَتْهُمْ أَنَّ جَدَّتِي لَمْ تُكْمِلْ لِي اَلْوَصِيَّةُ . . . ؟ دَخَلَتْ مِنْ بَابِ غُرْفَتِهَا حَتَّى رُؤْيَتِهَا مُسَجَّلَةً فَوْقَ خَشَبَةِ اَلْغُسْلِ صَرَخَتْ بِصَوْتٍ مَبْحُوحٍ ( جَدَّتِي هَلْ تُسَمْعِينِي ) لَكِنَّ دُونَ جَدْوَى لِسَمَاعِ صَوْتِهَا ثُمَّ نَظَرَتْ فِي عَيْنِهَا حِينَ شَعَرَتْ اَلسُّكُونَ مِنْ حَوْلِي . . . ! لَقَدْ رَأَيْتُ فِي عَيْنِهَا بَقَايَا سُطُورِ اَلْوَصِيَّةِ . . . ؟ تَقُولَ يَا وَلَدَى إِنَّ تَرْحَلَتْ بِكَ اَلْأَزْمَانُ إِلَى دُرُوبٍ بَعِيدَةٍ حَيْثُ هَجَرَتْكَ أَطْمَاعُ اَلْمُغْتَصِبِ لِلْأَرْضِ وَالدِّيَارِ وَالرَّعِيَّةِ لَا تَتْرُكُ مِفْتَاحَ دِيَارِكَ عَلَيْكَ أَنَّ تَعَلُّقَهُ فِي عُنُقِكَ مَدَى اَلدَّهْرِ فَإِنَّ نَحْلَ اَلزَّمَانِ مِنْكَ اَلْقَدَرُ وَلَمْ تَسْتَطِعْ اَلْعَوْدَةُ إِلَى اَلدِّيَارِ عَلَيْكَ بِتَرْكِ وَصِيَّةٍ لِلْأَجْيَالِ اَلْقَادِمَةِ . . . ! أَخْبَرَهُمْ أَنَّ اَلطِّينَ لَا يَنْسَى رَائِحَةَ اَلْجُذُورِ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ اَلطُّيُورَ رَغْمَ اَلْهِجْرَةِ لَا تَنْسَى مَوْطِنَهَا اَلْأَصْلِيَّ . . . ؟ رُبَّمَا تَمُوتُ اَلْأُمَّهَاتُ اَلْعَجَائِزُ عِنْدَ رِحْلَتِهَا فِي عُرْفِ اَلرَّحِيلِ لَكِنْ ثَمَّةَ إِدْرَاكُ أَنَّهَا بَعَثَتْ نَبْتَ أَجْيَالٍ تَعَلَّمَتْ طَرِيقَ اَلْعَوْدَةِ فَأَدْمَنَتْهُ . . . ! إِنَّهَا لَا تَعْرِفُ عُنْوَانَ اَلسُّقُوطِ . . . ! أَنَّهَا تَرْكَبُ فَوْقَ اَلرِّيَاحِ لِتَشُقَّ دُرُوبَ اَلْفَطِنِ . . . ! لَا تَنْسَى يَا وَلَدَى اَلْوُقُوفِ عَلَى قَبْرِي وَعَدَنِي أَنَّ اَلْمِفْتَاحَ مَعَكَ . . . ! سَأُخْبِرُ جَدَّكَ اَلَّذِي قَدَّمَ رُوحَهُ فِدَاءٌ لِهَذِهِ اَلْأَرْضِ أَنَّ اَلدِّيَارَ لَيْسَتْ فَارِغَةً . . . ؟ اَلدِّيَارُ بِهَا أَجْيَالُ تَحَمُّلٍ مُجْدٍ اَلْعُرُوبَةِ بَيْنَ يَدَيْهَا . . . ! يَا وَلَدَى كُنَّ رَجُل شَدِيدٍ اَلْغَلْطَةِ فِي نِزَالِ اَلْمَيَادِينِ هِينْ اَلْقَلْبِ عَطْفًا بِالْوَطَنِ إِنَّ اَلَّذِينَ بَاعُوا اَلْأَوْطَانُ نُزُولاً لِرَغْبَةِ اَطْمِعِهْمْ لَيْسَ لَهُمْ بَيْنَ سُطُورِ اَلتَّارِيخِ حَصَاد ( لَقَدْ زَرَعُوا اَلْقَمْحُ ثُمَّ جَمَعُوا اَلْقَشُّ وَتَرَكُوا اَلْحَبَّةَ ) اِنْتَهَى اَلْوَقْتُ حَيْثُ عَلَيْنَا اَلْخُرُوجُ مِنْ اَلْغُرْفَةِ نَحْمِلُ اَلْجَسَدُ إِلَى مَثْوَاهُ اَلْأَخِيرِ . . . ! مَاتَتْ أَجْيَالُ مُنْذُ اَلْوَصِيَّةِ وَلَمْ تَنْتَهِيَ اَلْوَصِيَّةُ . . . ! زِحَامُ اَلنِّعَالِ فِي طَرِيقِ اَلْجِنَازَاتِ تُرَابَ اَلْأَرْضِ مُعَطَّرٌ أَشُمُّ رَائِحَةُ مَسْكِ اَلْأَنْبِيَاءِ . . . ! اَلزُّهُورُ مَحْمُولَةً فِي مَشْهَدِ اَلتَّشَيُّعِ اَلرَّكْبِ يَمْضِي حَيْثُ اَلْمَقْبَرَةُ أَحْمِلُ رُفَاتُ جَدَّتِي كَانَ زِحَامُ اَلرَّحْمَةِ يَمْلَأُ أَرْجَاءَ اَلْمَكَانِ كُلَّ مَقْبَرَةِ بِهَا لَوْحَةُ شَرَفِ وَشَهَادَةِ صَاحِبِهَا ( إِنْسَانٌ ) نَعِمَ أَمْوَاتٌ وَلَكِنِّي أَشْعُر أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي أَعْمَاقِ اَلذَّاكِرَةِ . . . ! تَظَلّ اَلْقَضِيَّةُ نَبْض بِدَاخِلِي يَحَارُ اَلْعَالَمُ فَهْمَ قِصَّتِي إِنَّا اَلسَّرْدُ وَاقِع دَاخِلِيٍّ حَتَّى بَابِ اَلْمَقْبَرَةِ . . . ! يَبْدُو كَأَنَّ طَائِرَ اَلصَّبَاحِ إِنَّ أُسْدِلَ اَللَّيْلُ سِتَارَةً طُوِيَ جَنَاحَيْهِ لِلسُّكُونِ كَأَنَّ اَلْأَحْلَامَ عُصَارَةَ اَلْمَاضِي فِي شِرْيَانِ اَلذَّاكِرَةِ لَمْ أَكُنْ كَفِيفَ اَلْعَقْلِ حِينَ اَلْوَصِيَّة سَوْفَ أَخْبَرَ هَؤُلَاءِ اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ أَرْضٌ وَلَا وَطَن وَجَاءُوا عَنْوَةِ لِاحْتِلَالِ وَطَنِ أَنَّكُمْ كَفَرْتُمْ بِالْعَشِيرِ فَلَا تَسْتَطِيعُوا إِلْزَامِيٌّ بِحَمْلِ مِيزَانِ وَعَيْنِي مَعْصُوبَةً لَا يَخْدَعُكُمْ شَيْبُ رَأْسِي شَيْبَ إِنَّ رَأْسِي مَازَالَ بِدَاخِلِهَا عَقْلِيٌّ ) ( اُنْظُرُوا نَحْوَ اَلْمَقَابِرِ . . . أَلْفُ عَامٍ قَدْ مَضَى . . . مَازَالَتْ أَحْمِلُ اَلْمِفْتَاحُ . . . وَالْوُرُودُ فِي يَدِي وَفِي قَلْبِي اَلسَّلَامِ . . . إِلَى بِلَادِي وَفِي عَقْلِيٍّ وَصِيَّةَ جَدَّتِي )

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى