التاريخ وعلاقته بالمفهوم الجدلي للانسان 

يقول ابن خلدون في “المقدمة” :« التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار… و في باطنه نظر و تحقيق» و يفهم هذا القول على عدم التعامل مع الظاهرة التاريخية سواء كانت تاريخا شخصيّا للفرد أو تاريخا جماعيا للشّعوب تعاملا سطحيا بل يجب التحقّق من صحّة الخبر غير أنّ النظر و التحقيق اللذان دعا إليهما الفكر الخلدوني هما الاعتراف بالتاريخ و بفلسفة الوقائع و الأحداث و دور ذلك في هيكلة العمران البشري و فهم التحوّلات التي طرأت عليه و رصد دور البعد الزمني في موقعة العلاقات الإنسانية فيما بينها لأنّ حاضر الإنسان هو استتباع منطقي و تواصل بشكل ما لماضيه الشخصي أو الاجتماعي أو الحضاري أو الاقتصادي أو السياسي… من هذا المنطلق سعى العديد من الفلاسفة إلى فهم الإنساني في تكثّره و تنوّعه ضمن تصوّر معيّن لفلسفة التاريخ و في هذا الإطار سنكتفي بعرض تصوّرين كان لهما قيمة كبرى ضمن تاريخ الفلسفة و هما النظرية المثالية الجدلية لجورج ويلهالم فريديريك هيڤل (1770 ـ 1831) و النظرية الماديّة التاريخيّة لكارل ماركس (1818 ـ 1883)، أما النظرية المثالية الجدلية فهي قراءة فلسفية للتاريخ العام للإنسان أي هي حفر في منطق التاريخ الكلّي دون أن تختصّ في تاريخ معيّن لحضارة ما أو لشعب من الشّعوب و سُميّت هذه المدرسة بهذا الاسم لأنّ الهيڤلية قد سعت إلى تتبّع نشأة الفكرة أو المفهوم عبر التاريخ و تطوّرها ضمن مسار جدلي أي ثنائي قائم على التداول بين السّلب و الإيجاب، النفي و التحقّق، الفعل و الانفعال الاغتراب و التحرّر العبوديّة و السيادة الموضعة و التذويت النكران و الاعتراف النسبية و الإطلاقية… و ذلك تتبّعا لتشكّل الفكرة المطلقة عبر صيرورتها التاريخية (الصيرورة من صار يصير أي تحوّل عمّا هو عليه و تبدّل من وضع إلى آخر) فحسب هيڤل كانت بدايات تشكّل العالم من الروح أو الفكرة أو الوعي المطلق ( لتقريب الصورة من الأذهان يمكن استحضار ما تحدثّت عنه الأديان السماويّة بشأن قصّة الخلق التي انطلقت من فكرة الإله الذي قال للعالم كن فكان) فكانت الطبيعة اللانهائية أوّلا غير أنّ العقل المطلق أحسّ بالاغتراب في الطبيعة فحاول البحث عن ذاته و تجاوز الموضعة التي نتجت له بفعل تحوّل الفكرة إلى موضوع طبيعي فاكتشفت الطبيعة إمكانية البحث عن العقل داخلها باعتباره ملكة موجودة في الطبيعة و لم تكتشف بعد لذلك قام هيڤل برصد لحظات ظهور العقل و مراحل اكتشاف الإنسان للوعي الذي مرّ بمراحل ثلاث هي: الوعي “في الذات” وهي لحظة وجود الوعي كاستعداد طبيعي لم يكتشف ذاته بعد و الوعـي “بالذات” وهي لحظة اكتشاف الوعي لدى الإنسان باعتباره مبدأ يميّزه عن بقيّة الكائنـات و الوعـي ” للذات” وهي أهمّ مرحلة في تجربة الوعي نظرا لأنّها تجسّد لحظة التقاء الوعي الفردي بالوعي الفردي الآخر و عمل كلّ منهما على نزع الاعتراف من الطرف المقابل بذاتيته لأنّ طبيعة النظرة الأولى بين إنسان و إنسان آخر تكون عادة مموِضعة أي تتعامل مع الآخر كموضوع و ليس كذات مفكّرة و واعية و مالكة لما يمكن أن تفتقده الذات الأولى. إنّ عملية انتزاع الاعتراف بين الطرفين كانت من أبرز محطّات كــتاب ” علم ظهور الـروح ” لهيڤل لأنّ هذه المسألة لا يمكن أن تحلّ حسب هذا المفكّر إلاّ بخوض الصراع الذي يضع خلاله كلا الطرفين حياته في الميزان فإمّا أن يعترف به الآخر أو أن يموت لكن قد يحدث أن يضعف أحد الطرفين خلال النزاع فيفضّل الحياة لكن تفضيل الحياة في صراع يمكن أن نموت خلاله له ثمن باهض هو أن يقبل الطرف المنهزم بأن يكون عبدا للطرف المنتصر الذي انتزع الاعتراف به كذات من طرف الوعي الثاني. لكن تاريخ العلاقة بين السيّد والعبد لن تنتهي هنا فسيسعى العبد إلى استرجاع السيادة المنتزعة وذلك عن طريق العمل وعن طريق تطويع الطبيعة لفائدة السيّد الذي سيظلّ مكتوف اليدين منتظرا لما سيقدّمه له العبد من جهد غير أنّ العبد سيكتشف هذا الدور الذي يلعبه و يعرف أنّه إذا لم يعمل سيموت السيّد جوعا و بذلك يضحي العبد سيّدا لسيّده و السيّد عبدا للعبد فيتحرّر الطرف الثاني و تستبدل العلاقة بينهما بعلاقة حقوقيّة يكون بها لكليهما حاجة للآخر.

لقد حاول هيڤل أن يبيّن من خلال ما يُسمّيه بـ: جدلية السيّد والعبد هذه القراءة الرمزيّة للتاريخ ازدواجية العلاقة بين الإنيّة والغيريّة ذلك لأنّ الوعي بالذات يستوجب الوعي بالآخر و يحتاجه حتّى و إن مرّت العلاقات البدئية بينهما ببعض العراقيل لذلك هل يجوز أن نقول : ” إنّ الوعي الذاتي لا يحقّق لنفسه الإشباع إلاّ عن طريق وعي ذاتي آخر؟ “.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى