الكتابة بين الألم والتحرر

تُعتبر الكتابة جسرًا بين الأفكار المجردة والواقع المعاش، ولكنها أيضًا قد تحمل في طياتها آلامًا وتحديات خاصة، عندما يتعلق الأمر بالفلسفة والتي تسعى إلى تناول أعمق القضايا الإنسانية والوجودية هذه الآلام تتجلى في عدة جوانب تتعلق بعملية التفكير، الإنتاج الأدبي، وتلقي الجمهور ومنها معاناة التفكير العميق إذ غالبًا ما يتعامل المفكرون مع قضايا متداخلة مما يتطلب منهم عملية تفكير عميقة ومكثفة قد تكون مرهقة ذهنيًا، حيث يتعين عليهم تناول أسئلة وجودية مثل: ما معنى الحياة؟ ما هو الحق والباطل؟ وما هي طبيعة المعرفة؟
تقول الكاتبة (إدنا أوبراين): «الكتابة تخرج من الآلام، من الأوقات العصيبة، عندما يكون القلبُ مجروحا».
فالتجارب المؤلمةُ والسعيدة، تجعل الإنسان شغوفاً بالمستقبل، وفي بحثٍ دائم عن السعادة، وفي خوفٍ مستمر من الألم، يقول (شوبنهاور): «إنّ الحياة تتأرجح كالبندول بين الألم والملل، وكلتا الحالتين تفرضان الشّقاء على الإنسان»، أي أننا نتألّم بسبب عدم حصولنا على الشيء، ونتألّم أيضا لخوفنا من فقدانه! ولعل الغوص في مثل هذه القضايا يمكن أن يسبب قلقًا داخليًا وشعورًا بالعزلة قد يشعر الكاتب بأنه يتحدث من مكان مختلف عن العالم من حوله والجدلية بين الكتابة و ضغط إنتاج الأفكار تظهر في معضلة كبرى بين مفهومين هامين كيف نرى الالم والسعادة ؟
لقد اتفق (فرويد) مع (أرسطو) في أنّ الإنسان لا يسعى في الواقع إلى تحصيل السعادة إنّما إلى تجنّب الألم، وبهذا يجب عليه أن يكونَ مُمتناً للذة والسّعادة في أهمّ صورها وضوحاً وتواضعاً، وهي غيابُ الألم وتاريخ البشر في حقيقته حلقة مُفرغة من النشوء والانهيار، بدوافع الخوف من الألم، والرغبة في اللذة، ونتيجة لتلك الرغبتين، تُبنى الأفكار ، ثمّ تُهدَم وغالبا ما يواجه العديد من الفلاسفة ضغطًا لإنتاج أفكار جديدة أو لكتابة نصوص تُعتبر رائدة في مجالاتهم يولد شعورًا بالشك في النفس، حيث يتساءل الفيلسوف عما إذا كانت أفكاره كافية أو جديرة بالنشر فعندما كتب الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر عن القلق والحرية، مشيرًا إلى كيفية تأثير الأعباء الفكرية على الفرد وهنا نشير إلى أهمية الكتابة والنقد والمواجهة
بعد نشر الأفكار، فإن الفلاسفة يواجهون غالبًا النقد الشديد من زملائهم والجمهور وغالبًا ما تُعتبر موضوعًا للمناقشة الحادة والتحليل. هذا التعرض للنقد يمكن أن يكون مؤلمًا للغاية حيث يشعر الفيلسوف بأنه قد وضع نفسه في موضع ازاء حكم الآخرين. على سبيل المثال واجه هيجل الكثير من الانتقادات اعتقاده النظري حول المثالية، مما زاد من شعوره بالعزلة ولقد عبر الفلاسفة عن الفجوة بين الكتابة والواقع من خلال المعاناة فالرؤى المختلفة والأفكار المثالية والواقع العملي يقيد الكتابة ومن أجل أن يُنصِّب المرء نفسه حاكماً وقاضياً، يجب عليه أن يكتسب حقّ الحكم بما يقاسي من الألم».. هكذا قال (دوستويفسكي)
الشعور بالفشل الذي يصيب الكاتب في التأثير على العالم من حوله أو في ترجمة أفكاره إلى تغييرات إيجابية هذا الشعور بالـ”التعالي” بين الفكر والواقع يمكن أن يؤدي إلى الإحباط، خاصةً عند الفلاسفة الذين يسعون لتغيير المجتمع من خلال أفكارهم فهل تحمل الكتابة
هموم الفلسفة ؟
إحدى الصعوبات الرئيسية التي يواجهها الفلاسفة هي اختيار الكلمات المناسبة للتعبير عن أفكارهم اللغة ليست مجرد وسيلة، بل هي التعبير عن التعقيدات العميقة ا للواقع والأفكار يقول “فريدريك نيتشه ”
يقول نيتشه: ” عندما نكون متعبين، تهاجمنا من جديد تلك الأفكار التي هزمناها منذ مدة طويلة “فهي التحدي في كيفية تجسيد أفكارهم بطريقة تثير الانتباه وتستفز التفكير.المت
إن الكتابة تسلط الضوء على التحديات النفسية والفكرية التي يواجهها الكتاب أثناء سعيهم لفهم العالم وتقديم رؤى جديدة. يقول كانط “إنه علينا أن نصبح على دراية بالأداة قبل أن نشرع في العمل الذي سنستخدمها فيه؛ لأنه إذا كانت الأداة لا تفي بالغرض فستذهب كل معاناتنا أدراج الرياح … لكن استقصاء المعرفة لا يمكن أن يتم إلا من خلال فعل خاص بالمعرفة إن استقصاء هذا الشيء المسمى أداة هو نفس الشيء كمعرفته لكن التماس المعرفة قبل أن نعرف هو عبثية مماثلة لعبثية القرار الحكيم الذي اتخذه “سكولاستيكس” بعدم المغامرة بالنزول في المياه حتى يتعلم السباحة.”
إن الجزم بماهية المعرفة في حد ذاته تجاوز للمعرفة نفسها لأن الاطروحات المعرفية وإن تتجسد في مشاعر القلق، والضغط والنقد و فهي بشكل تعبر عن الفجوات بين الفكر والواقع. ومع ذلك، فإن هذا الكفاح يعد جزءًا أساسيًا من عملية التفكير الفلسفي، ويعكس عمق الأفكار والتعقيدات البشرية وعليه إن كتابة الفلسفة ليست مجرد تأملات نظرية، بل هي تعبير عن الصراع الداخلي الذي يجسد روح البحث عن الحقيقة والمعنى
في ظل الصراع مع الألم بأنواعه فهل يجوز التسليم بما قاله هيجل” عندما رأى أن موضوع الألم من الزوايا الفلسفية يتعلق بالوعي والتطور الفردي والمعرفي وهو فهم أساسي للوجود الإنساني وضروري للنمو الشخصي ؟