تأملات قصيدة” من أنا …؟ ” للشاعرة  المتميزة آمال صالح 

البحث عن الهوية في زمن الاغتراب

تُعَد الهوية من الموضوعات الأكثر تعقيدًا وتحديًا في الأدب والشعر، حيث يعكس البحث عن الذات تجارب فردية وجماعية متشابكة وقد تناول العديد من الكتاب هذه القضية، وتعتبر “فرجينيا وولف “من أبرز الكُتّاب الذين استخدموا تيار الوعي كوسيلة لاستكشاف العواطف والأفكار الداخلية للشخصيات، مما يمكِّن القارئ من الوصول إلى فهم أعمق لهويتهم وفي رواياتها مثل “السيدة دالوي” و”إلى المنارة”، تُبرز أن الهوية مفهوم متغير يتأثر بالتجارب والأفكار والعلاقات الاجتماعية، مؤكدة أن المجتمع والأعراف التقليدية قد تقيد الهوية الذاتية وتؤثر فيها.

تقول وولف في إحدى مقالاتها: “لا يمكن للمرأة أن يكون لها هوية خاصة بها في عالم يستمر في فرض قيود على ما يمكن أن تكونه “ومن خلال استكشاف أعماق النفس البشرية وتفاعلاتها مع المجتمع، تتجلى التعقيدات والمفارقات التي تعيشها الشخصية في سعيها لفهم الذات ليعكس التنوع كيفية تأثير الهوية على الحياة الفردية والجماعية، ويجعلها مسألة مستمرة تحتاج إلى الاستكشاف والبحث.

في خضم هذا الصراع، تأتي الشاعرة المتميزة آمال صالح بلوحة فنية شعرية تجسد تجربة البحث في قصيدتها “من أنا…؟”

من أنا…؟!

بقلم آمال صالح

 

وددت أن أعرف من أنا

فقط بورقة وقلم

أو فكرة جريئة

جاءت تصالحني

بعد أن فقدت شهية التفكير

وددت أن أعرف من أنا ؟

وسط هذا الزحام الذي لا يشبهني

والوجوه المتشابهة في السرعة

وددت فقط أن أكتب

حرفا يخصني

فكان الكلام مستعصيا

لا يأبه لما أقوله بداخلي

للأشياء المتعثرة

في صمتي المثقل

بأنا وأناشيدي المدرسية

لبراءة الطفلة

تبحث عن الأنا في هذا الخضم…

بدون تناسق

أحاديث لم تألف الشعور

لا

ولا القلوب الرقيقة…

من أنا…؟

بين أصوات مستطيلة

ليس فيها ركن نقيم فيه

ونحس بالأمان

من أنا بين كل هذا…؟

وددت أن أعرف من أنا…

تطرح الشاعرة المتوهجة تفكيرا وذكاء وحيرة

آمال صالح تساؤلات متنوعة و عميقة حول الهوية والتواصل في عالم مليء بالفوضى سأحاول من خلال هذه القراءة المتواضعة تسليط الضوء على جماليتها وإبراز عمق أبعادها.

تساؤلات حول الهوية

تبدأ القصيدة بتساؤل مباشر وجريء: “وددت أن أعرف من أنا”، مما يعبر عن حالة اغتراب وقلق، فحين يتعرض الفرد لضغط محيطه يبدع فتعيدنا هذه الكلمات إلى فكرة “سقراط” الذي أكد على أهمية معرفة الذات كخطوة أولى لفهم الوجود، وقد يعكس هذا التردد حيرة الشاعرة وشغفها لاكتشاف هويتها.

الأسلوب والمعاني

تتميز قصيدة آمال صالح بأسلوبها الفريد الذي يجمع بين البساطة والعمق. تُظهر اللغة المستخدمة توازنًا بين التعقيد الفكري والتعبير العاطفي، مما يسهل على القارئ الارتباط بالتجارب المُعاشة تُمزِج الشاعرة بين الأسلوب السردي والتعبير الشعري، مما يؤدي إلى إيجاد بنية متماسكة تثير مشاعر القارئ.

الكلمات والأصوات

تصف الشاعرة “هذا الزحام الذي لا يشبهني” والوجوه المتشابهة في السرعة، مما يخلق بيئة غير ملائمة للذات يُظهر الاستخدام المكثف للغة الاستعارة كيف أن الكلمات قد تصبح “مستعصية”، مما يؤكد الشعور بالضياع والتشوش، ويستحضر هذا الوضع الأفكار النيتشوية حول الذات المتعددة، حيث يصبح من الصعب على الفرد إيجاد هويته وسط مجموعة من الأصوات والأشكال المتماثلة.

التشبيه والاستعارات

توظف الشاعرة العديد من الاستعارات والتشبيهات التي تعمق من توصيل معانيها. تُشبه الأصوات المحيطة بـ”الصرير الصامت”، الذي يعكس الاغتراب الداخلي، كما تشير إلى “الزجاج الشفاف” الذي يعبر عن هشاشة الهوية، حيث تُحيط الأبعاد الداخلية بخلافات خارجية، مما يوضح كيف يمكن أن تكون الهوية محفوظة داخل قشرة هشة تتعرض للكسر في أي لحظة.

الفلسفة والهوية

لا يقتصر البحث عن الهوية على الأدب فقط، بل شهد أيضًا مجموعة من التأملات الفلسفية. يقول جان بول سارتر: “الوجود يسبق الجوهر”، مما يعني أن الأفراد يخلقون هويتهم من خلال أفعالهم وتجاربهم، وليس من خلال أي تعريفات مسبقة تُظهر تجربة الشاعرة في تساؤلاتها عن هويتها الأنماط المختلفة من الوجود والتجريب، حيث يبرز دور الفعل والاختيار في تشكيل الهوية.

الهوية والتواصل الاجتماعي

يشير الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر إلى أن “الإنسان هو كائن سياقي”، مما يعني أن الهوية تتكون في سياقات اجتماعية وثقافية تلعب العلاقات مع الآخرين دورًا محوريًا في بناء الهوية، وقد اتفقت الشاعرة مع هذا الموقف من خلال البعد الفلسفي في قصيدتها، حيث تتداخل أصوات الآخرين وتأثيراتهم في فهمها لذاتها مما يُظهر أن الهوية تتشكل من خلال شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية.

البراءة والذكريات

يلعب عنصر الطفولة في القصيدة دورًا مهمًا، حيث تشير الشاعرة إلى “أنا وأناشيدي المدرسية”، وهو انعكاس للبراءة والبحث عن الأمان. يتجلى تأثير تجارب الطفولة على تشكيل الهوية، مما يجعل القارئ يستحضر الأبعاد الزمنية كما نراها في فلسفة هايدغر. توضح الشاعرة كيف تؤثر الذكريات على بناء الهوية، خاصةً عندما تفقد البراءة وسط ظلم الواقع اليومي.

البحث عن الأمان

تتكرر أسئلة الشاعرة عن الذات وسط أصوات “مستطيلة” تعكس الفوضى، مما ينبه إلى فقدان الاستقرار والأمان يعكس استخدام الشاعرة للغة الطفولة والبراءة كيف تصبح الهوية متنازعة تحت وطأة التحديات الاجتماعية

الأسلوب والشكل

يتكرر في القصيدة قولها: “وددت أن أعرف من أنا”، مما يعكس حالة القلق والبحث تكرار يعزز الإحساس بجدلية الصراع الذاتي الذي يعاني منه الشخص في سعيه لتحقيق فهم أعمق وكأن حروفها تسعى لمساعدة الشاعرة في إيجاد نفسها وحروفها لغة القصيدة تحمل طابعًا بسيطًا ولكنه عميق الأبعاد مما يسهل على القارئ التفاعل مع المشاعر المعبر عنها.

الأبعاد الوجودية

تُعكس القصيدة الصراع الداخلي الذي يُظهر التوتر بين الهوية الذاتية والمظاهر الاجتماعية، ويكشف عن معاناة البحث عن الذات في زحام العالم. أما البعد الاجتماعي فقد بات واضحًا من خلال الازدحام الذي يؤدي إلى الفقد، حيث تُظهر هذه الإشكالية أن فقدان الهوية يجعل جميع الوجوه متشابهة، ويبقى على الأفراد تمييز أنفسهم عن الآخرين.

 

تحتوي قصيدة “من أنا…؟” على تأملات وجودية تمثل صدى لأسئلة الهوية التي شغلت الفلاسفة والشعراء عبر العصور تعكس القصيدة التجربة الإنسانية الفريدة التي تجسد الشعور بهموم البحث عن الذات في عالم مترامي الأطراف من خلال هذه القصيدة، تظل التساؤلات حول “من أنا؟” قائمة، فهي ليست مجرد كلمات، بل رحلة مستمرة عبر الزمان والمكان، تتآلف فيها الأبعاد النفسية والاجتماعية لتشكيل الحس الإنساني.

تقدم الشاعرة آمال صالح صورة عميقة ومعقدة عن الذات، وتدعونا للتفكّر “كيف يمكن للفوضى المحيطة بنا أن تؤثر في تجاربنا الفردية وفي بحثنا عن هويتنا ؟

وسط كل التحديات نصنع من أنفسنا كتابا مبدعين ونجعل لحروفنا اصواتاً وألحانا لانه بحث ممنهج وينم عن وعي وليس عن الهامشية والبساطة في التفكير .

تعتبر هذه القراءة محاولة لفهم العلاقات المعقدة بين الذات والمجتمع، حيث نسلط الضوء على قضية رئيسية يعاني منها الفرد، والمثقف بصفة خاصة، وهي البحث عن الهوية الفردية في بيئة متغيرة .

أخيرًا، إذا كانت الهوية في علم النفس تعني إدراك الفرد لذاته، وفي السوسيولوجيا تعني صياغات تدبير علاقة الفرد مع العالم، فإنها في حقل الأدب تشكل قضايا أنطولوجية تتعلق بالماهية والحقيقة والحرية، مما يجعل من الأدب مشروعًا جمالياً يحقق تواصل الفرد مع ذاته وواقعه ولكن هل تكفي الكتابة بأنواعها لمساعدة صاحبها على إيجاد هويته المفقودة أحيانا؟

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى