مقالات

جلد الذات

سيدجعيتم

سيدجعيتم

صورتك تعذبني في اللحظات القليلة التي يوقظني وعيي فيها للحياة، وسرعان ما يتوه عقلي في سجن متاهة محكمة الإغلاق، وفي نوبات جنوني أضحك بينما تصطك أسناني من ألم عذاب جلسات العلاج التي تركز الكهرباء اللعينة على عقلي.

تعودت على الثناء ونظرات الإعجاب، كنت أتيه متعالية بجمالي فيَدَهلون وتذهب عقولهم.

يا لغبائي! كيف لي أن أنتظر منك عطفًا وأنت من علمتني أن التألم لأجل الغير ضعف؟ كنت تلميذتك النجيبة، وحييت ولا سقف لخيلائي، وطأت بقدمي رقاب ضحاياي، هن يتلذذون كونهن ضحايا.

في لحظة من لحظات انضمامي إلى الحياة، أتذكر اسمي الحقيقي (سعدية) وأختي (أمينة)، فتاتين يتيمتين نعيش في دار من الطوب اللبن على طرف القرية، تفصلها عن المقابر أمتار قليلة، يحمل إلينا الهواء رائحة الموت.

كرهت بكاء المشيعين وروتين المقرئين على القبور.

مهنة والدينا التي ورثناها كانت مصدر رزقنا، نتبادل أنا وأختي الذهاب إلى المدينة لبيع ما نصنعه من الجبن وبعض الفطائر.

غيبت قسوة الحياة عنا كل المتع، ويغيظني رضا أمينة واستسلامها. وعندما أتبرم مما نحن فيه، تشنف آذاني وهي تبتسم:

– الحمد لله.

كنت أختلق معها المشاجرات، فتتقدم لمصالحتي. يزداد حنقي عليها وهي تقول:

– من يبدأ بالصلح يكون له بيت في الجنة.

تقربت مني، شاب جميل الطلعة، عذب الحديث، أحببتك رغم أنني لم أحب أحدًا من قبل. تحولت صداقتنا إلى حب، وأدمنت رائحة الموت التي تفوح منك.

نصحتني أمينة:

أخاف عليك من هذا الشاب، لا أرتاح له، فهو التهلكة، فلا تلقي يا أختاه بنفسك فيها.

وكان ردك:

– أختك تكرهك، الغيرة تأكل قلبها.

مرضت أمينة، تستيقظ من غفوتها مذعورةً، وهي تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. ابتسمت وأخبرتني:

مرضها ثمن حقدها عليك، وثمن ما اقترفته من قول تجاهي، ولولا محبتي لك لكان مرضها أشد.

لم انتبه لقولك، فقد سلبت إرادتي.

أمْسَكَتْ بيدي، ولم أعد بعد ذلك إلى دارنا، ولم يعد لي غيرك.

غيرتُ اسمي ليصبح مناسبًا للمرحلة الجديدة، وذاعت شهرتي ونمت ثروتي. كنتُ ساعدك في غواية من حولي. اصبحت أماكن اللهو والمجون داري .

تلاحقني رغبة شديدة في أن تراني أمينة، وأن أستمتع بنظرات الهزيمة في عينيها.

حذرتني من الذهاب إليها، ومن دخولي إلى دارنا التي هجرتها.

لم يتغير مدخل القرية، فقد ملأت رائحة الأرض المروية بماء النيل أنفي، واستعذبت عبيرها.

شجرة الجميز أمام دارنا تحمل الذكريات، حيث كان أبي يستريح مستندًا إلى جذعها، وأمي تشعل الحطب لتعد له الشاي. وكنت أنا وأمينة ندور حولهما، نتابع فراشة بألوان زاهية وضحكاتنا تملأ المكان.

اقتربت من الجميزة ومن والديَّ، فأشاحا بوجهيهما وتبخرا في الهواء.

لم تتغير الدار كثيرًا، على جدرانها طلاء حديث ورسومات لجمل ومصلين يسجدون أمام الكعبة، وجملة ‘حج مبرور.

أمام الباب كان هناك اثنان من الصبية وفتاة يلهوان. الفتاة تحمل جمال أمينة، أطلقت صافرة السيارة، كنت أريد أن تعرف القرية كلها أنني هنا، لكن لم يلتفت لي أحد .

فجأة وجدتك أمامي:

ـ ألم أحذرك من الحضور ومقابلة أختك؟ إياك أن تدخلي الدار.

خرجت أمينة تستطلع الأمر، رحبت بي باسمي الجديد الذي اخترته لي.

لم انتظر دعوتها للدخول فنصف البيت الذي يؤيها ملكي، و قد نويت أن أمتلك النصف الآخر.

سمعتك تصرخ وتحذرني من الدخول، لم أعرك أي اهتمام.

وجدت في نفسي شوقًا لاحتضان ابنة أمينة، لكنها نفرت مني وقالت بعفوية الأطفال:

ـ رائحتك كرائحة المقابر.

على الجدار صورة لأبي وأمي وصورة قديمة لي، وفي الجدار المقابل صورة تجمع أمينة وزوجها وأولادها.

رأيتك تعافر. لتتمكن من دخول الدار، رأتك أمينة فاستعاذت بالله منك، وهربت للخارج.

فازت أمينة، وتمنيت لو كنت مكانها.

تملكني شعور نسيته منذ سنين، شعور بالراحة والسكينة. تسلل إلى عقلي صوتك يقول:

ـ أأمرك بالخروج، لم ننهي ما كُلفنا به.

ينتابني شعور طاغٍ بمخالفة هذا الأمر.

ـ اخرجي وإلا سأحرق الدار بمن فيها.

هممت بالانصراف، فمدت أمينة يدها لي بمصحف. صرخ صرخة عظيمة أرعبتني، فهرولت للخارج

.قاد بي السيارة، وأراد أن يدهس ابن أمينة. صارعته لمنعه وأنا أصرخ.

انتشلني الأهالي من أمام مقود السيارة الغارقة في ماء النهر.

ـ أتاني صفير صوتك، انتهى دورك.

يسحب الطبيب المعالج سن الحقنة من يدي.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى