قراءة فنية بعنوان “الشفافية في القصيدة جمال التعبير وعمق المعنى “

قصيدة بقلم الشاعر صالح صوائدي “هل عليكّ؟”

تعد الكتابة الشعرية واحدة من أرقى أشكال التعبير الفني والأدبي، حيث تتميز عمومًا بقوة الرمزية وعمق المعنى. الشعر لا يقتصر فقط على كونه كلمات موزونة وقافية، بل هو أداة لنقل المشاعر والأفكار المتراكمة، وهو يتيح للكاتب حرية الابتكار بما يعكس رؤيته الذاتية وعلاقته بالعالم. في إطار ذلك، تبرز قضية “الحقيقة” في الكتابة الشعرية كعنصر أساسي يعكس التفاعل بين الشاعر وواقعه إذ يعبّر الشعراء عن آرائهم وثقافاتهم وأحاسيسهم بطرق عميقة ومعقدة، مما يجعل القارئ يتفاعل مع النص بشكل يتجاوز الكلمات في هذا السياق، يقول أدونيس: “الشعر هو بحث عن المكان الذي يجمع بين القلب والعقل”، بينما يذكر الشاعر الفلسطيني محمود درويش: “أنا لا أكتب الشعر، الشعر يكتبني” هذه الأقوال تعكس الجوانب المتعددة لحقيقة الكتابة الشعرية وموقع الشاعر كفاعل في عملية الإبداع.

اخترت هذه القصيدة للشاعر المتميز صالح “صوائدي ” شاعر تونسي استاذ لغة عربية متمكن من الكتابة وبارع في رسم الصورة الشعرية ولعلنا من خلال هذه القصيدة نلقي الضوء على الشفافية فهل هي قيمة وجودية مع كل تجربة شعرية أم ضرورة تقتضيها الحالة الشعرية نفسها ؟

وإلى أي مدى برع الكاتب في التعبير عنها من خلال قصيدته” هل عليك “؟

يقول الشاعر

هَلْ عَلَيْكَ….!

هَلْ علَيْكَ أَنْ تكُونَ

شَفِيفًا..!

وأَنْ تحْمِلَ أَوْجَاعَكَ

فوْقَ كَفِّكْ

وأَنْ تحْمِلَ آلاَمَكَ

فوْقَ وجْهِكْ

وأَنْ تصْدَحَ عَالِيًا بكُلِّ

هُمُومِكْ

كمَاءٍ عذْبٍ زُلاَلٍ

يكْشِفُ عوْرَةَ النَّهْرِ

حِينَ لاَ يُشِيحُ بِوجْهِهِ

أوْ كنُورِ الشَّمْسِ حِينَ يأْتِي

تهْرَعُ إلى مخْبَئِهَا كُلُّ ظُلْمَةٍ

وينْكَشِفُ في تفَاصِيلِهِ

المَشْهَدْ…

هَلْ علَيْكَ أَنْ تكُونَ

شَفِيفًا..!

وأَنْ تُقُولَ كُلَّ الحَقِيقَهْ

وأَنْ تكْشِفَ عنْ وجْهِكَ

كُلَّ تفَاصِيلِهِ الدَّقِيقَهْ

وتُعَرِّيهِ أَمَامَ العَوَاصِفْ

حتَّى لاَ يكُونَ ضَحِيَّهْ

فكَمْ مِنْ وجْهٍ تَنَقَّبْ

وسَقَطَ أَمَامَ أَوَّلَ عَاصِفَةٍ

وظَهَرَتْ كُلُّ عُيُوبِهْ

وكَانَ التَعَرِّي عُدُوَّهْ…

هَلْ علَيْكَ أَنْ تكُونَ

شَفِيفًا..!

وأَنْ تُضَحِّي بكُلِّ حُصُونِكْ

وأَنْ تكْشِفَ كُلَّ جُنُودِكْ

وأَنْ تُظْهِرَ كُلَّ عَتَادِكْ

كَيْ لاَ يُقَالَ عنْكَ جَبَانٌ

أَلاَ تَرَى مَعِي أَنَّ الغُرُوبَ

حِينَ يأْتِي لَهُ تنَحَنِي

كُلُّ الطَّبِيعَهْ

وتنْسَحِبُ الشَّمْسُ ذَلِيلَهْ

ويعُمُّ الكَوْنَ السُّكُونُ…

هَلْ علَيْكَ أَنْ تكُونَ

شَفِيفًا..!

في زَمَنٍ قَمِيءٍ قَبِيحٍ

الكُلُّ فِيهِ اسْتَحَالَ بارِعًا

في الأَخْلاَقِ الحَمِيدَهْ…

ص ص✍️…

 

الموضوع والمضمون

 

تتناول القصيدة موضوع الشفافية والصراحة كقيمتين وجوديتين في مواجهة تحديات الحياة. تحت عنوان التساؤل الدائم “هل عليك أن تكون شفافًا؟”، يناقش الشاعر ضرورة التحلي بالشجاعة لتحمل الأوجاع والألآم، ويحث على مواجهة الصعوبات بوضوح وصراحة. يبرز مضمون القصيدة مفهوم الصدق مع الذات والتعري عن المشاعر الحقيقية، بعيدًا عن الأقنعة الاجتماعية.

التحليل الفني

1.-أسلوب الاستفهام:استعمل الشاعر أسلوب الاستفهام كتقنية رئيسية في قصيدته، حيث يتكرر السؤال المركزي “هل عليك أن تكون شفافًا؟” بشكل منتظم. وهذه التقنية ليست مجرد أداة لغوية، بل تعكس رغبة الشاعر في توجيه القارئ إلى التأمل في موضوع الشفافية. فلكل سؤال علاقة مباشرة بالفضول البشري حول معاني الحياة والوجود. من خلال ذلك، يخلق الشاعر حالة من الحيرة والتفكير العميق لدى القارئ، مما يجعله يتساءل عن خياراته الشخصية ودرجة انفتاحه على العالم من حوله. وهذا يؤدي إلى حوار داخلي يتجاوز حدود النص، مما يسمح للقارئ باستكشاف مشاعره وأفكاره حول الصراحة والمواجهات.

 

2.-الصورة الفنية:يستخدم الشاعر صورًا بلاغية قوية، مثل مشابهة الشفافية بـ “الماء العذب” و”الشمس”، التي تبرز جمال الحقيقة، بينما تكون الظلمات رموزًا للكتمان والنفاق.

 

3.-التعبيرات الرمزية – يتناول الشاعر “التعري” كرمز للوضوح؛ حيث يكشف عن النفس بلا أقنعة، مما يشير إلى الشجاعة في مواجهة التحديات. استخدام “الجيوش” و”العتاد” يعكس الصراع الداخلي وإرداة الإنسان في مواجهة الأزمات

4-الصورة الشعرية والشفافية فيها :تتمثل الصورة الشعرية في قصيدة “هل عليك أن تكون شفافًا؟” كأداة لتحسين تجسيد مفهوم الشفافية. يستخدم الشاعر الكثير من التشبيهات والاستعارات لإظهار جماليات الشفافية وتحدياتها وعلى سبيل المثال، يشبه الشفافية بـ “الماء العذب” و”نور الشمس”، مما يعكس الأثر الإيجابي للكشف عن الحقائق والمشاعر. تعتبر هذه الصور الشعرية تجسيدًا للوضوح والأصالة في التعبير، حيث تجعل القارئ يتفاعل مع النص بشكل أعمق. بالمقابل، يقدم الشاعر صورًا تعكس الظلام والاختباء، التي تظهر عندما يتحدث عن “قناع” و”عواصف”مما يعكس التحديات التي تواجه الإنسان في سبيل تحقيق الشفافية. بهذه الطريقة، تساهم الصور الشعرية في تعزيز الرسالة الأساسية للنص، وهي أن الشفافية هي طريق نحو الحرية الذاتية، رغم ما تقتضيه من شجاعة ووضوح.

العاطفة

تتجلى العاطفة في القصيدة بصورة واضحة، حيث يمزج الشاعر بين مشاعر الألم والأمل. التوتر العاطفي يظهر في حثّ الشاعر للقارئ على التحلي بالشجاعة في إظهار الضعف والتحديات. على سبيل المثال، حين يشير إلى “تحمل الأوجاع” و”الآلام”، يشعر القارئ بالألم والتعاطف مع التجربة الإنسانية المشتركة. استخدام تعبيرات مثل “تحمل آلامك فوق وجهك” يسلط الضوء على صراع الإنسان الداخلي بين القبول والرفض، مما يولد شعورًا بالتضامن العاطفي مع القارئ.

الأسلوب

يتميز أسلوب الشاعر بالوضوح والعمق، حيث يمزج بين الاستفهام والتكرار ليعكس حالة من البحث الداخلي. تكرار عبارة “هل عليك أن تكون شفافًا؟” يخلق إيقاعًا متوازنًا يجذب القارئ للغوص في قضايا وجدانية عميقة. كما يستخدم الشاعر الأسلوب التصويري بإبداع، مما يضفي على النص جمالية بصرية وسماعية. على سبيل المثال، المقارنة بين “نور الشمس” و”ظلمات الليل” تعزز من مفهوم الشفافية والصراحة، مما يساعد القارئ على تصور الصراع بين الحقيقة والازدواجية في الحياة.

 

تجسد قصيدة “هل عليك أن تكون شفافًا؟” دعوة فنية للتأمل في مفهوم الحقائق الشخصية والوجودية إن الشفافية هنا تعكس قوة الشخصية، حيث تتمثل في مواجهة النفس بصدق وقوة ويشجع هذا النص القارئ على التحرك نحو حوار داخلي يمكن أن يؤدي إلى التحرر من المعوقات والقيود الاجتماعية ففي النهاية، الشعر هو مرآة تعكس عمق النفس الإنسانية، وتحثها على أن تكون صادقة في زمن يتطلب الشجاعة للتحلي بالشفافية ولقد تناول العديد من الفلاسفة فكرة الشعر والفلسفة، وقدموا رؤى متنوعة حول العلاقة بينهما ودورهما في استكشاف الحقيقة والفهم البشري يرى نيتشه، أن الشعر والفلسفة يمثلان نوعين من السعي نحو الفهم، حيث قال “إن الشعر يمكن أن يُعبر عن تجربة الحياة بعمق، بينما تسعى الفلسفة لتفكيك هذه التجربة” فهل يجوز في هذا السياق القول بأن الشاعر هو الفيلسوف الذي يأخذ من العواطف ما لا يمكن للفيلسوف التعبير عنه منطقيًا؟أم أنه مرآة للواقع ويقتصر دوره على التفاعل الروحي فقط .