الأدب والشعر

بائع الورد

لمياء عبدالله النفيعي 

لمياء عبدالله النفيعي 

في أحدى المقاهي المطلة على البحر، منكبة على أوراقي اكتب في صمت، ونسيم البحر يتغلل في أعماقي، قطع صوتٌ ضعيف حبل أفكاري ” هل أنتِ شاعرة؟”، نظرتُ باتجاه الصوت لطفلٍ لا يتعدى عشر سنوات، عيناه غائرة، كث الشعر، ندبة بشعة في جبهته، ملابسه ممزقة، حافي القدمين، بعض من أصابعه مبتورة، يحمل باقة ورود ذابلة بين ذراعيه، ينظر إليّ بلهفة، منتظرًا مني الجواب، تأملتهُ باستغراب وهتفت ” ماذا قلت؟!” كرر سؤاله مرة أخرى “هل أنتِ شاعرة؟”. قلتُ :” بلى” ضمني بذراعيه الصغيرتين بسعادة وجلس بقربي قائلاً “كم أنتِ محظوظة!”، ابتسمتُ له متعجبة وقلت لهُ ” لما أنا محظوظة! ، مهلًا ما أدراك بأنني شاعرة؟”، قال “كنتُ أراقبك وأنتِ تكتبين….هل ممكن أقرأ ما كتبت؟”، حالما انتهى صفق بيديه فرحًا وقال “حقًا أنتِ شاعرة.”، ضحكت من أعماق قلبي وقلت له “شكرا لك أيها القارئ العظيم، شهادة أعتز بها”. تنهد بحسرة قائلاً : “كم أتمنى أن أكون شاعرًا ، ولكن انظري لحالي مجرد بائع ورد! أخرجني والدي من المدرسة، واجبرني لأعمل معه في البناء نعيل أسرتنا، وحدث مالم يكن في الحسبان، سقط المبنى، فتعرضتُ لحادث نتج عنه ضربة في رأسي وجروح بليغة في جسدي، فأمضيت شهورًا في المستشفى فتوسلت إليه والدتي بأن أبيع الورد حرصًا على سلامتي.”

ثم استرسل قائلاً ” في كل صباح أسير في الشوارع، أراقب ذهاب الفتية إلى مدارسهم، وهم يحملون حقائبهم على ظهورهم، تخنقني العبرة، وفؤادي محطم، لأنني لا أستطع أن أدرس، وأعود إلى البيت مرهقاً، خالي الوفاض، أتلقى الشتائم من أبي ويعايرني بالفشل لأنني لم أبيع شيئًا ذاك اليوم “. تأملتهُ بحزن وقلت له “هل تُحب الشعر” قال ” بل أعشقه.” قلت له ” ماهو حلمك؟” قال :” حلمي إكمال تعليمي وأصبح شاعرًا، ارتدي رداء فخر المتنبي، واكتبُ برقة الرصافي وبلاغة الجواهري….صدقيني سأصبح شاعرًا يومًا ما، ويُشار إليّ بالبنان! ……انظري”. اخرج من جيبه قصاصات ورق مجعدة نماذج لاشعارهم.

همس قائلاً ” كنتُ أخفيها عن أبي كي لا يمزقها، لأنه كان يردد بأن القراءة والتعليم لا يجدي نفعًا.” وقف فجأة وقال”يجب أن أغادر لقد تأخرت، ستقلق أمي عليّ، بعد وفاة والدي أصبحت العائل لأسرتي، ولابد أن اجني كثيرا من المال لإطعامهم وشراء الاحتياجات الضرورية، ودواء القلب لأختي الصغيرة.” ثم نظر إليّ بحزن وقال : “أرجوكِ اشتري مني وردة”. ابتسمت له وقلت ” بل أخذها كلها” فعانقني بشدة ورحل وفي قلبي غصة على حقوقه المسلوبة منه.

مع مرور الزمن كنتُ في نفس المكان استرجع الذكريات، اقترب مني النادل وهمس ” هل أنتِ الشاعرة؟!” دُهشت منه وانعقد لساني من سؤاله، لم يعطني فرصة للرد عليه، ووضع في يدي رزمة مغلفة مدونة عليها اسمي، سارعت بفتحها ويدي ترتجف من هول المفاجأة صرخت بأعلى صوتي ” يا آلهي لقد أصبح حُلمه حقيقة .. لا أصدق لقد صدر له ديوان شعري بعنوان “بائع الورد والشاعرة”. ترقرقت الدموع في عيني من رقة الإهداء الذي كتبه لي “إلى من كان لها الفضل بعد الله، التي دعمتني لأقف على قدمي، وأناضل من أجل حقوقي في هذه الحياة، وأحقق حلم طالما تمنيت تحقيقه، شكراً من القلب … مع التحية بائع الورد”

 

هل رأيتَ دمعةَ طفلٍ مُضطهد؟ هل شاهدتَ طفلاً لاجئاً تائهاً، يرتجف من البارد القارس، أم لم ترى ما خلفتهُ الحروب من إعاقة جسدية لطفل وهو في مقتبل حياته وزهرة طفولته ؟ أو شعرتَ بمعاناة بمن تأذى من العنصرية؟ وهل سمعتَ بكاء طفلاً مريضًا لايجد ثمن الدواء؟ أو بكاء طفلاً جائعًا لايجد ثمن الرغيف، أو طفل فقد والديه أو أحدهما أو فقد أسرته بالكامل، كم شاهدنا في وسائل الأعلام وبرامج التواصل الاجتماعي مقاطع ومشاهد تدمع العين ويدمي لها القلب لأطفال يعانون من المآسي ونظرات الخوف من المجهول ولا يعلموا ماذا هو مصيرهم في المستقبل، وأن البعض لا يدرك حجم المعاناة في قلوبهم الصغيرة، وقد يغفل البعض أن الطفل النواة الأساسية في هذه الحياة وزينة الحياة الدنيا، ويعتبر الطفل جزء لا يتجزأ من المجتمع فهم أجيال الغد والأساس الذي يبنى عليه المجتمع ويرتقي، وكل مجتمع في المجتمعات الأخرى تسعى لمستقبل مميز لهم، بمنحهم حقوقهم كاملة وحفظهم من الانتهاكات أو أي تأثير سلبي يغير مجرى حياتهم ويعود بالضرر على المجتمع كله.

 

أن أول حق من حقوق الطفل السليم وطفل ذوي الاحتياجات الخاصة هو حق الحياة بأن يعيش حياة آمنه، سعيدة، كاملة، والعيش ضمن أسرة توفر له الدعم المادي والنفسي وتأمين له الاحتياجات الاساسية من مأكل ومشرب، والرعاية الصحية والعيش في بيئة صحية ليبقى على قيد الحياة، وحمايته من الأذى النفسي والجسدي، والجوع والفقر والحرب، والضياع ، وغرس الثقة في النفس ، وأحقية التعليم بحب العلم والتعلم والقراءة منذ الصغر، وله أحقية التعبير عن رأيه ومشاعره، وعدم التنمر عليه، والتلفظ عليه بألفاظ تفقده ثقته بنفسه، وحرمانه من أبسط حقوقه أن يعيش طفولته بكل سعادة، وتطوير مهاراته، واكتشاف مواهبه، وأحقية اللعب بمزاولة الألعاب والأنشطة والمشاركة في مجال الفنون والثقافة في أوقات الفراغ، وكذلك المساواة وعدم التميز بينهم، لبناء طفل ذو شخصية قوية، وسوية متزنة، متمتع بالكرامة، والإنسانية، بعيدة عن الانتهاك لشخصيته أو استعباده، أو مزاولة أعمال شاقة تؤدي به إلى التهلكة، أو المتاجرة به، أو المشاركة في الحروب، أو التسول، أو استغلاله من خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت ظاهرة منتشرة وجعل من طفله مادة دسمة بهدف الكسب المادي، وشهرة، وازدياد عد المتابعين، واستغلال طفولته وبراءته بأبشع أنواع الاستغلال، مما يؤثر تأثير ضار على حياته العقلية والنفسية والجسدية والاجتماعية.

 

رغم أن جميع المواثيق والمعايير الدولية تدين استغلال الطفل وحرمانه من حقوقه في الحياة ، والاهتمام بحقوقه خاصة بعد الحرب العالمية الثانية بسبب الآثار التي خلّفتها الحرب عليهم من الناحية الجسمية والنفسية بإصدار أول نص قانوني يُلزم الجميع باتفاقية حقوق الطفل بشكل رسمي في 20 نوفمبر والاحتفاء باليوم العالمي للطفل من كل عام من أجل حمايتهم ورعايتهم وتوفير حياة كريمة لهم، ونشر الوعي بيوم الطفل ومعرفة حقوقه وتقديم المساعدة، وتوفير جميع الاحتياجات اللازمة له، وتأمين ضرورات الحياة لهم وجعلهم في حياة صحية آمنة، ونشر التوعية بين أفراد المجتمع بأن هناك العديد من الأطفال الذين يتعرضون للظلم والقهر والخوف في مختلف دول العالم ، وتقديم الدعم لهم والاحتفال معهم وإدخال السرور إلى قلوبهم ورسم البسمة على وجوههم

لأنهم اللبنة الأساسية المكونة للمجتمع فإذا نمت وترعرت بشكل سليم تكبر على أسس ثابتة وقوية.

 

فما أبشع استغلال الطفولة وقتل براءتها، لقد هرموا وهم في طفولتهم، والبعض منهم نضج قبل وقته بسبب ما يتعرضون له يوميا من ضغوطات نفسية، وبعضهم يتصارع من أجل لقمة العيش، ويتألمون من قسوة البشر الذين قطفوهم من بساتين الحياة قبل أوانهم، وانتهاك حقوقهم، وحرمانهم من حق العيش في هذه الحياة بأمان، فلا تبتئس أيها الطفل الصغير سيأتي يومًا تكون كلُّ أيامك سعادة وليس هذا اليوم فقط.

 

ومضة مضيئة مقتبسة

“كل طفل في هذا العالم هو طفلي الذي عليّ أن أحافظ عليه وأحمي طفولته من الخراب والدمار، هذا هو المبدأ الذي يجب أن نعيش عليه وننساه دومًا.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى