مقالات

الذاكرة والوجع.. أبعاد وجودية وفلسفية  في قصيدة (شممت عطرك)

للشاعر حافظ مخلف

د.آمال بو حرب

د.آمال بو حرب

يعيش الشعراء على تخوم الألم والاغتراب، فهم كائنات تحمل جراحًا لا تندمل، يبحثون في الكلمات عن وطن بديل ويجعلون من اللغة مرآةً تعكس اضطرابهم الداخلي وعلاقتهم المتوترة بالعالم. إنهم في حالة اغتراب دائم ليس فقط عن المجتمع، بل عن ذواتهم أيضًا حيث تتحول القصيدة إلى ملجأ يتسع لصراعاتهم وأسئلتهم الوجودية.

في هذا السياق تأتي قصيدة “شممت عطرك” للشاعر العراقي حافظ مخلف، لتكون نموذجًا لهذا الاغتراب إذ يتجسد فيها الألم كحالة شعورية تحيا بين الذاكرة والوجع، وبين الحاضر والغياب ضمن تجربة شعرية تحمل أبعادًا فلسفية ووجودية عميقة.

يعد حافظ مخلف من الأصوات الشعرية التي تمزج بين العاطفة والفكر، مستندًا إلى بنية رمزية كثيفة تتجاوز حدود المعنى المباشر، يتكئ في نصوصه على استدعاء الحواس والمكان والذكريات ليخلق مناخًا شعريًا تتداخل فيه الأزمنة، وتنفتح فيه الذات على تساؤلات

لا تنتهي.

في “شممت عطرك” نواجه تجربة شعرية تسعى إلى القبض على لحظة شعورية متوترة بين حضورٍ طاغٍ وغيابٍ مؤلم حيث يصبح العطر ذاكرةً مشحونةً بالحنين والأسى.

يقول الشاعر:

“شممت عطرك في أدراج مكتبتي

وعُدت جرحاً لمن بالعشق لم يمت

ماذا أقول اذا أربكت دوزنتي

وجاء صوتك عنواناً لأغنيتي

بيني وبينك للعذّال ما ظهرت

صحائف طويت في قعر ذاكرتي

تجيئني من ضفاف الجرح أسئلة

تاهت بها في حنايا الروح أجوبتي

شكراً لصوتك إذ يأتي فيمنحني

دفء الأمان وشطآناً لأشرعتي

قلبي يُريح على عينيك غربته

كن لي وفيّاً بعيدا غير ملتفت

لا بد منك ولو طيفا يسامرني

 

بالجفن يغفر ولو همساً بلا ثقة

ماذا اسميك فر الحرف من لغتي

وانت رامي الهوى في ظل عوسجة

يامنيتي رغم ما عانيت من وجع

أبقى بحبك مفتوناً وذو عنت

لا نخلة بقيت لا شدو ساقية

حتى مكاني هنا قد ضل أمكـنـتي

ماذا تبقى لحلم العاشقين اذا

أتلفته دون وعي منك بالنكت

غداً سنرحل عن أسمائنا فعلى

قياس اسمك قد فصلت شاهدتي

كنقطة علقت في ثوب معصيتي

أو نسمة تسأل الأجداث عن رئتي”.

الاحتواء في الشعر هو القدرة على استيعاب التجربة الإنسانية وتحويلها إلى بنية لغوية تتجاوز المعنى الظاهري، بحيث تفتح المجال لتعدد التأويلات. الشعر لا يعكس فقط المشاعر بل يمنحها أبعادًا جديدة عبر التكثيف اللغوي والرمزية والقدرة على خلق عوالم موازية. في “شممت عطرك” نجد أن الاحتواء يتجلى في توظيف الحواس والذاكرة لتحويل العطر إلى رمز يحوي داخله الألم والاشتياق، حيث تصبح الحاسة أداة استرجاع تُعيد تشكيل الماضي في الحاضر، مما يوسع أفق التجربة الشعرية لتشمل بُعدًا فلسفيًا وجوديًا.

البنية التعبيرية ودلالاتها:

تعتمد القصيدة على أسلوب شعري يجمع بين التكثيف والرمزية ما يمنحها طابعًا تأويليًا مفتوحًا. جاءت اللغة مشحونةً بالمجازات والصور الحسية حيث استند الشاعر إلى الحواس -ولا سيما الشم- ليجعل من العطر بوابةً إلى الذاكرة والوجع.

يُلاحظ أن النص ينهض على ثنائية الحضور والغياب، كما يظهر في التناوب بين ألفاظ مثل “عطر” و”جرح” و”غريبتي” و”الأمان”، ما يعزز التوتر الدرامي داخل القصيدة.

من الناحية الشكلية يتبع الشاعر نسقًا إيقاعيًا متوازنًا، مع تدوير شعري يخلق انسيابيةً تعكس تدرج المشاعر. يُبرز التكرار كما في عبارة “ماذا أسميك.. ماذا أقول؟”. تتشبث الذات بصورة المحبوبة، بينما يعكس التوازي التركيبي، مثل “تجيئني من ضفاف الجرح أسئلة تاهت بها في حنايا الروح أجوبتي”، حيرةَ الذات وتيهَها الوجودي.

الأبعاد الوجودية:

تجسد القصيدة فضاءً وجوديًا، تُحاك فيه خيوط الذكريات والألم، كحوار بين الماضي والحاضر. ينسج مخلف عالمًا تتصارع فيه الروائح مع الجروح، حيث يتحول العطر إلى جرح في البيتين الافتتاحيين

“شممت عطرك في أدراج مكتبتي

وعُدت جرحاً لمن بالعشق لم يمت”.

هذا الانزياح الحسي (الشم → الألم)، يستدعي فكرة الفيلسوف “غاستون باشلار” في كتابه “جماليات المكان”، “الذاكرة ليست أرشيفًا بل فضاءً تُخلق فيه الصور من جديد”، فالعطر هنا أداةٌ تستدعي ذاكرةً مؤلمةً تعيد تشكيل الواقع عبر لغة استعارية تلامس اللاوعي.

تعكس القصيدة صراع الذات مع غربتها، كما في البيت

“قلبي يُريح على عينيك غربته”، وهنا يلتقي مفهوم الاغتراب الوجودي عند “ألبير كامو” في “أسطورة سيزيف” -حيث يصبح الإنسان غريبًا في عالمٍ لا معنى له- مع فكرة “مارتن هايدغر” عن “القذف في الوجود” لكن الأسئلة تظل عالقةً.

“تجيئني من ضفاف الجرح أسئلة تاهت بها في حنايا الروح أجوبتي”، تيه يجسد أزمة الإنسان الحديث في البحث عن اليقين، كما رأى سورين كيركغور “القلق ثمن الحرية”.

الصراع الاجتماعي وإعادة تشكيل الهوية:

تلمح القصيدة إلى صراع خفي بين الذات والمجتمع

“بيني وبينك للعذّال ما ظهرت

صحائف طويت في قعر ذاكرتي”

يعبر الشاعر عن انفصام الهوية تحت ضغوط الأعراف، وهو ما يتوازى مع مفهوم “ميشيل فوكو” عن “السلطة الخفية” التي تشكل وعي الفرد.

ينتهي النص بتهديد بالرحيل “غداً سنرحل عن أسمائنا” رحيل ليس هروبًا، بل بحثًا عن هوية جديدة كما في مفهوم جان بول سارتر “الإنسان مشروع يسبق ذاته” لكن الشهادة تظل مرتبطةً باسم المحبوبة “على قياس اسمك قد فصلت شاهدتي”.

فرحيل الحبيب لا يُمحى، بل يتحول إلى “أثرٍ” يخلد في القصيدة وكأن الشعر سلوى الوجود الوحيدة ضدّ فوضى الغياب. هنا يلتقي الشاعر مع ابن زيدون في إيمانه بأنّ الجمالَ الحقيقيّ لا يُفقد، بل يهاجر من عالم المادة إلى عالم الخيال، حيث تصير القصيدةُ وطنًا بديلًا للقلب المُهاجر.

الشعر بين التعبير والاكتشاف:

قصيدة “شممت عطرك” ليست مجرد حكاية عشق بل سردية وجودية تجسد أزمة الإنسان بين الذاكرة والوجع، وكما يقول تي إس إليوت “الشعر ليس تعبيرًا عن المشاعر بقدر ما هو هروب منها، لكنه في الوقت ذاته وسيلة لاكتشافها” ينجح مخلف في تحويل الألم إلى جمالٍ شعري مفتوحٍ على تأويلاتٍ تعانق أسئلة الوجود.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى