ماهية اللغة عند ابن خلدون

يرى ابــن خلــدون أن الانســان بغــض النظــر عــن طبیعــة اللغــةالتـي یتكلمهـایـتكلم بصـورة طبیعیـة ، إلا أن ذلـك الأمـر قـد یـوهم بعـض النـاس أنهـا طبـع فطـرعلیـــه الانســـان والحـــال علـــى غیـــر ذلـــك فهـــى عملیـــة یـــتم اكتســـابها وقـــد أجـــرى علمـــاء اللغـــة المحــدثون حــوار اً جــاداً مــع أ ارء علمــاء اللغــة الأقــدمین حــول الطبــع والــتعلم فــى نطــق العــرب للغــة
حیـث فهـم القـدامى أن نطـق العـرب فـى عصـر الأستشـهاد باللغـة الصـحیحة الفصـیحة كـان سـلیقة لهـم وطبعـاً ملازمـاً وفطـرة فطـرهم االله علیهـا فكانمـا ولـدوا وهـى تجـري في اعراقهم ،شـأنها شـأن سحنتهم وطباعهم ویرى المحدثون أن هـذه النظـرة غیـر صـحیحة ،
وأن اللغـة اكتسلـاب وُعـرف وأن هنـــاك فرقـــاً بـــین الاســـتعداد للـــتكلم والـــتكلم نفســـه ، والأول هـــو الـــذى یصـــح أن نطلـــق علیـــه مصــطلح “الخلیقــة والفطــرة” وأمــا الثــاني فیكتســبه الأنســان مــن المجتمــع الــذى یعــیش فیــه كمــا یكتسب كل المظاهر الاجتماعیة الأخرى وابــن خلدون یفهــم “الطبــع والصــنعة” فهمــاً خاصــاً لایتفــق مــع مــا یســمیه القــدماء “الخلیقــة والفطـرة ”
كمـا أنـه لا یتفـق تمامـا مـع فهـم المحـدثین مـن إطـلاق معنـي “الإكتسـاب والعـرف” ففهمـه لهـذه المسـالة یـدور فـى إطـار فهمـه للملكـة اللسـانیة التـي تحصـل مـن تكـ ارر الأفعـال التـي تحـدث بالصفةثم الحال،ثم الملكة وتفريقه بـین “الطبـع والصـنعة ” یعـود لتلـك الظـروف التـي تحقـق بهـا هـذه الملكـة والمناخ الذى تحدث فیه
فإذا كانت تلك الظـروف موجـودة تلقائیـاً فإن تلقـین اللغـة یجـي بصـورة عفویـة فیـــــــتمكن منهـــــــا النـــــــاطق دون قصـــــــد لتعلمهـــــــا فيستعملون كمـــــــا یســـــــتعملها كـــــــل النـــــــاس مـــــــن حوله والمحدثون من اللغویین العرب فهموا “الإكتساب” علـى أنه مرادف “للـتعلم” ومقابـل “للخلیقـة والفطرة” و قاموا بمجادلة القدامى على أساس هذا الفهم أما ابـن خلـدون فقـد فهـم الإكتسـاب على أنـه مرادف لحـدوث الملَكـة اللسـانیة ،
وبنـاء علـى ذلـك فرّق فـى حـدوثها بـین “الطبـع والـتعلم” علـى أسـاس الإخـتلاط أوعدمـه “فالأكتسـاب” یحـدث فـى الطفولـة أمـا تعلـم اللغـة فیحـدث فـى مرحلـة متأخرة حیث تكون العملیات العقلیة قد نضجت أو قاربت النضج” ويبدو مــن خــلال مــا ســبق أن ابــن خلــدون قــد عــالج مســالة اكتســاب اللغــة عنــد الانســان بشــكل عــام
وذلــك لأن د ارســة أكتســاب تحتــل أهمیــة بالغــة فــى إطــار الدارسات الألســنیة الحدیثة وتندرج هـذه المسـالة قـى مجـال مـا ُعـرف بعلـم الـنفس اللغـوي أو )السـیكو ألسـنیة( ویهـتم مجال السیكو ألسنیة أو علم النفس اللغوي بد ارسة قضـایا اكتسـاب وأنتـاج الكـلام وتفهمـه وتكـون السـیكو السـنیة مجــال بحـث واسـع مشــترك بـین الألسـنیین وبــین علمـاء الـنفس
فتبحــث فـى مسائل أكتساب اللغة وأم ارض اللغة وعلاقة اللغة بالفكر والذاكرة ” ومــن هــذه المســائل التــي تهــتم بهــا الدراسات الألســنیة التــي عالجهــا ابــن خلــدون مســألة أن اللغــة غریزیة فى الانسان، بمعني أنه طبع علیها ليس كما یقـــول ســـابیر”اللغة وســـیلة إنســـانیة خالصـــة وغیـــر غریزیـــة إطلاقـــاً لتوصـــل الأفكـــار والانفعـــالات والرغبات عن طریق نظام من الرموز التي تصدر بطریقة إرادیة ” وهو الرأي ذاته الذى أكده ابن خلدون بقوله “إنما هى ملكة لسانیة فى نظم الكلام تمكنت ورسخت فظهر فى بادئ الرأي أنها جبلة وطبع “ويقول ابــــن خلــــدون “إن الطفــــل یكتســــب لغتــــه بطریقــــة غیــــر مبرمجــــة
“مهیــــأة”من قبل مختصين بعد دراستها وبالتالى “برمجتها” أى عفویة خاضعة للتعامل الیومي لمـن هـم حولـه فـى بیئته و يرى ابن خلدون”أنه من أجل ترقیة الملكة التـي نحصـل علیهـا عفویـاً علینـا نهـج تعلـم طریقـة اللغـة من خلال طریقة مباشرة فى اكتساب الملكة اللغویة والتي تتم بالتعامل مع النتاج العربى الفصيح ومـن هنـا لایمكـن فهـم اللغـة وقـوانین تطورهـا بمعـزل عـن حركـة المجتمـع النـاطق بهـا فـى الزمان والمكان المعینین لأن فیهـا مـن الأنسـان فكـره وط أریقـه الذهنیـة ،
وفیهـا مـن العـالم الخـارجي تنوعه وألوانه وقـد مضـى علـى الانسـان حـین طویـل مـن الـدهر تعامـل فیـه مـع اللغـة تعاملـه مـع الهـواء والماء فلم یكلف نفسه عناء البحث عن مكوناتها ولم یشغل باله فـى معرفـة كنـه وسـیلته الإبلاغیـة المثلــــى ثــــم جــــاء زمــــن بــــدأ فیــــه الانســــان یصــــرف جهــــداً مــــن أجــــل الوقــــوف علــــى ســــیر ســــلوكه التواصلي ولكـنه لا يزال الانسـان یجـد أن معرفتــه باللغـة علـى النحـو الـذي یطمــح إلیـه بحاجـة إلـى مزیـد مــن الدرس والبحـث
، ویؤكـد بيرتراند راسل ( ضـآلة معرفتنـا بـالكلام واللغـة ) ویـدعو إلـى ان اللغة عـادة جسـمیة والمیـدان الصـحیح لعلـم اللغـة هـو د راسـة مـا یقولـه النـاس ،ومـا یسـمع وسط المحیط والتجارب التي یعملون فیها الأشیاء ویؤكـــد “فیـــرث “هـــذه النظریـــة الاجتماعیـــة للغـــة بقولـــه : “لنبـــدأ بـــأن نعتبـــر الانســـان لـــیس مفصولاً عن العالم الذي یعیش فیه ،
إنه لیس جزءاً منه إنه لیس موجوداً لیفكر فیه ، ولكن لیعم مـا یناسـب وذلـك یقتضـیه أن یمتنـع عـن العمـل فـي الوقـت المناسـب أیضـاً وهـذا ینطبـق علـى أهـم نشاط اجتماعي للإنسان ونعني به دفع الهواء وآذان الآخرین إلى الإضـط ارب بوسـاطة ماینطقـه فكلامـك لـیس مجـرد تحریـك للسـان او اهتزاز فـى الحنجـرة أو إصـغاء ،
إنـه أكثـر مـن ذلـك نتیجـة لعمل العقل في تأدیة وظیفته كمدیر للعلاقات لتحفظ علیك سیرك فى المحیط الذي تعیش فیه أي أن هــذا الارتبــاط بــین اللغــة والانســان یخولنــا أن نؤكــد “أن الانســان لغــة ویلــزم عــن هــذه المقولة أن اللغة من كیان الانسان ، فلا إنسانیة بدون لغة”والانسان بدون لغة لایتمتع بالانسانیة الكاملة ولـو كـان عقلـه وأفكـاره فـى مسـتوى أعلـى بكثیـر مـن المســتوي الحیــواني وقــد أثبتــت الأبحــاث التــي قــام بهــا العلمــاء “أن العقــل لایبلــغ نمــوه إلا بعــد أن یتمكن الانسان من النطق كل التمكن”.