مقالات

اتكاءات الخميس..اللالوبة: سبحة الذكر وسراج السالكين في ليل التصوف السوداني.

ملمح تراثي

إبراهيم شقلاوي 

إبراهيم شقلاوي 

التصوف في السودان ليس مجرد نهج روحي، بل هو تجربة متكاملة تمزج بين الذكر، والسلوك، والأدب، والفن الشعبي. ومن أبرز رموزه “سبحة اللالوب”، التي ليست مجرد حبات خشنة من شجر الهجليج، بل أصبحت جزءًا من طقوس الذكر الليلي، حيث يتسابق المريدون في إدارتها بين أناملهم، طلبًا للصفاء الروحي وبلوغ المقامات العالية في محبة الله سبحانه وتعالى ومحبة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .

الليل في التصوف السوداني ليس مجرد وقت للسكون، بل هو حضرة للذكر والخلوة، حيث يسعى المريد إلى الفناء في حضرة الجلال. في هذا السياق، تصبح سبحة اللالوب مرادفة للذكر الليلي، بل تُجسد روح الليل في صفائه وعظمته عند الصالحين، حتى قيل إن اللالوبة والليل لا ينفصلان عن بعضهما البعض.

الذكر في رمضان تحمل نكهة خاصة عند الصوفية في السودان، حيث يزداد الإقبال على حلقات الذكر، والمديح، والتلاوة، ويتجلى الشوق الروحي في مجالس السالكين. فرمضان عندهم ليس مجرد شهر للصيام، بل هو موسم للنفحات، والأنوار، وتجديد العهد مع الله.

يرى الصوفية أن رمضان فرصة لتصفية النفس ومضاعفة الذكر، إذ أن الجوع والعطش يرققان القلوب، ويزيدان من صفاء الروح، ويهيئانها لاستقبال الفيض الإلهي. وفي هذا الشهر المبارك، تزدحم المساجد والزوايا بالخاشعين، وتُقام الخلوات، وتُبسط مجالس الذكر، حيث تعلو أصوات المادحين والمنشدين.

يكتسب الليل في رمضان قدسية مضاعفة، فهو ليس فقط وقت الصلاة والقيام، بل هو ساحة للذكر والتجليات الروحية. وكما أن سبحة اللالوب رمز للخلوة والمجاهدة، فإنها تزداد حضورًا في هذا الشهر، حيث يسهر السالكون على أورادهم، متوسلين بنفحات الشهر الكريم، مرددين في خلواتهم:

وكما جاء في قصيدة الشيخ المكاوي: “اللالوبة يا خُدامه، الليل بجِيب كلامه
النومْ بقالي ملامه”. فالليل عند أهل الذكر هو وقت التجليات، حيث يجد السالكون حلاوة الذكر وواردات القرب، ولذلك يفر الصوفية إلى الخلوات بعيدًا عن ضجيج الحياة، بحثًا عن لحظات التلاقي مع الله.

ليس رمضان عند الصوفية مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو مدرسة للتزكية والتهذيب، حيث يتعلم المريد الصبر، والقناعة، والخضوع، والتوكل. فالصيام عندهم ليس عن الجسد فحسب، بل هو صيام القلب عن الغفلة، وصيام اللسان عن اللغو، وصيام النفس عن الشهوات.

في التصوف، يُنظر إلى الجذب كمرحلة من علو الإيمان ، حيث يجد السالك نفسه مأخوذًا بنور القرب، متخلصًا من علائق النفس. وقد أشار ابن عطاء الله السكندري إلى أن نهاية السالكين هي بداية المجذوبين، حيث يسير العابد بين مقامات الشهود، متدرجًا بين الصفات والأسماء حتى يصل إلى بحر المعرفة.

كما أن الليل ساحة المجاهدة والرياضة الروحية، فإن حمل اللالوبة ومداومة الذكر بها رمز للسير في دروب العارفين. وقد أشار المريدون إلى أن السالك لا بد أن يمر بأربعة مقامات لتحقيق الصدق في الطريق: الجوع: كوسيلة لتصفية الروح. ثم السهر: كمجال للخلوة والذكر. ثم اعتزال الناس: تفرغًا للعبادة. ثم الصمت: إلا عن ذكر الله.

وهذه الادبيات في السلوك تظهر جليًا في الأبيات: “اللالوبة فاح نساما، ولاحْ البرِق لي سِهاما، فِرسانا جاتْ تترامى، مَحمود قايد زُماما”

اللالوبة بين الرمزية والتاريخ :على مرّ العصور، كانت سبحة اللالوب رفيقة السالكين، وعلامة على ارتباط التصوف السوداني بالبيئة المحيطة به، حيث يختار الصوفيون الطبيعة كحضن للذكر والتأمل. ومن خلال القصائد والأذكار، حافظت هذه السبحة على رمزيتها، وأصبحت دليلاً حيًا على استمرارية التقليد الصوفي في السودان.

يرى أهل الطريق أن ليالي العشر الأواخر هي ذروة السعي، حيث تتفتح أبواب القبول، وتتنزل الأسرار، ويجتهد المريدون في الذكر والمناجاة، متلمسين أنوار ليلة القدر. وفي هذه الليالي، يتزايد الاعتكاف، وتزداد المجاهدات، حيث يُفرّ السالكون إلى الخلوات طلبًا للصفاء، موقنين بأن: “اللالوبة زولِك طَّشْ، ما مَّلحولو اتعشى، مِن دُهم الليل ما كَّشَ، رَدعوهو لامَن رَّشَ”

ختامًا : سبحة اللالوب ليست مجرد أداة ذكر، بل هي سرٌ من أسرار الطريق، وسراج في ظلمات المجاهدة. هي الليل بما يحمله من صفاء، وهي الرفيق في رحلة العشق الإلهي. وكما يقول المريدون، فإن من أحبّها وتعلق بها، أدرك معنى الذكر وعاش لذته. ليالي رمضان عند الصوفية هي ليالي سمو روحي، حيث تُشرق الأرواح في نور الذكر، وتذوب النفوس في بحر العشق الإلهي. إنها ليالي التهجد والخلوة، ليالي اللالوبة والأنوار، حيث يكتمل سمو الليل وجلاله بذكر الله.
دمتم بخير وعافية.
الخميس 13 مارس 2025 م. Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى